وبصعوبة بالغة تمكنوا من الوصول إلى يمني لم يرشح نفسه، وكان كهلاً قصيراً يميل للبدانة بعض الشيء، ويشبه الرئيس الأوروغوائي خوزيه موخيكا في النزاهة ونظافة اليد، إلا أنه لم يعمر على كرسي الرئاسة سوى ثلاثة أشهر، ثم تلقى رصاصة في صدغه وهو عائد إلى منزله المتواضع راجلاً.

وبعد حصر دقيق، تبين أن هناك خمسة عشر رجلاً وامرأة لم يرشحوا أنفسهم، وكانت الأنظار تتجه إليهم، لكنهم أدركوا الخطر المحدق بهم، فدفعوا مدخرات حياتهم لقرصان صومالي ليقوم بتهريبهم إلى الخارج، وهكذا رحلوا تحت جنح الظلام في سفينة متهالكة بها عدة ثقوب إلى زيلع، ومنها إلى مكان مجهول، واختفوا كما اختفى الأمس.

وبعد غربلة استمرت لأشهر، تم العثور على مواطن يشبه المهاتما غاندي، ويؤمن مثله بمبدأ اللاعنف، وعلى الفور تم تنصيبه رئيساً للجمهورية، ولكنه كان مسالماً أكثر من اللازم، فلم يصمد في المنصب لأكثر من ست ساعات، ثم شنق في ميدان التحرير بيد ثوار من العامة.

 

عادوا للبحث مجدداً عن شخص لم يُرشح نفسه، فعثروا على عجوز سوداء – تنتمي لطبقة الأخدام-  تشبه نيلسون مانديلا، وكانت مثله حكيمة ومتسامحة، ولكنها لقيت حتفها بعد أسبوع واحد فقط، طعناً بالجنبية، على يد شاب عنصري رافض لإصلاحاتها الاجتماعية التي ألغت الامتيازات الطبقية.

 

النهاية الحزينة للرؤساء الثلاثة

لكن هذا الانفجار السكاني المفاجئ لم يكن هو الشيء الوحيد الباعث على القلق، وكانت الورطة الحقيقية هي في كيفية إجراء اختبار القبول لأربعين مليوناً، وأوشك البرلمان أن يعلن عن إلغاء الوظيفة، لولا أن تفتق ذهن واحد من أعضاء “الحوار الوطني” عن فكرة رائعة: البحث عن المواطنين اليمنيين الذين لم يرشحوا أنفسهم ليتم اختيار واحد منهم لشغل الوظيفة.

وخلال شهر من تاريخ نزول الإعلان كاد موظفو البرلمان ينهارون من شدة الضغط، وسرت شائعات عن انتحار أحدهم، وعن إنقاذ آخر في اللحظات الأخيرة بعد تعاطيه سماً، كل ذلك بسبب الأعداد الخيالية من المتقدمين لشغل الوظيفة المرموقة، ونشرت الصحف إحصائيات دقيقة، تذكر أن العدد وصل إلى الأربعين مليوناً، رغم أن التعداد الرسمي يشير إلى أن عديد الشعب اليمني يناهز الثلاثين مليوناً، ولم يستطع أحد تفسير من أين جاءت تلك الملايين الزائدة، وحتى العالم البريطاني الحائز على جائزة نوبل في الرياضيات – الذي اُستدعي لحل هذه المعضلة- لم يتمكن من فعل شيء، وصرح لمراسلة البي بي سي وهو في المطار يترقب أول رحلة ليغادر اليمن، أن ما حدث عمل من أعمال الشعوذة!

بعد فترة وجيزة من اختتام الحوار الوطني اليمني أوائل عام 2014، ظهر في وسائل الإعلام إعلان عن وظيفة شاغرة:

(( مطلوب رجل أو امرأة لشغل منصب رئيس الجمهورية، ويشترط أن يكون المتقدم يمني الجنسية، ويجيد القراءة والكتابة، ويتمتع بحسن الخلق. ))

الرئيس الذي قدم استقالته رحل إلى جزر الكناري ليقضي فترة تقاعده هناك، متمنياً للشعب اليمني التوفيق والسداد.

وظيفة شاغرة

رئيس الجمهورية اليمنية

قوانين صغيرة

المؤلف : وجدي الأهدل

المترجم : ديفد كانبيرقز

تابع الناجون الخمسة طريقهم وهم حزانى على رفاقهم الذين أكلهم العفريت. وانشقت الأرض وظهر لهم لاعب كرة قدم ذائع الصيت، وسألهم أيهم اشتراه؟ فلم يردوا عليه، فغضب النجم الكروي العالمي، وقال إن واحداً منهم قد دفع ثمنه، ولا يصح له أن يترك مديره الجديد ويمضي هكذا لحال سبيله! فرفع أحد الخمسة يده، فشبك النجم اللامع ذراعه بذراع ذاك المدَّعي، وانطلق به إلى الكثبان الرملية العالية، ولم يشاهد أحد منهما بعد ذلك البتة.

ثم ظهرت شابة عليها ثياب التخرج، وتعتمر القبعة المربعة، تسأل عن قاعة الاحتفال بالخريجين.. سخر منها أحدهم وضحك حتى استلقى على الأرض، وقال إنه لا توجد هنا سوى الرمال، رفعت الشابة قبعتها، وأخرجتْ من داخلها قاعة احتفال مهيبة، فإذا الذي سخر منها يقصد القاعة ليتأكد أنها موجودة على أرض الواقع وليست خدعة بصرية، ثم غاب بداخلها عن الأنظار إلى الأبد.

ومروا برجل يمسك بصنارة طرفها غائر في الرمال، فسألوه ماذا يصطاد؟ فضحك ثم أجاب: “الموت”. دفع له خمسة منهم ليصطاد لهم الموت، فحرك صنارته وسحبها وأخرج كفناً أبيض، ثم أعاد الكرة ورماها واصطاد كفناً ثانياً، وتابع على هذا المنوال حتى أوفى لهم الأكفان الخمسة وناولها لأصحابها.

وما هي إلا بضعة كيلومترات حتى ظهر لهم عفريت بطول نخلة، ومنعهم من التقدم، وقال إنه جائع ولابد أن يتغدى بنصفهم ليشبع جوعه، فتقدم الخمسة الذين اشتروا الأكفان ليأكلهم، فلما رأى الأكفان تحت آباطهم امتعض وقال: “لا أجد شهية في مضغ وبلع من لا يخشى الموت”، ثم قفز من فوقهم والتهم الخمسة الذين أحبوا الحياة ولم يستعدوا للموت.

تابع الخمسون الذين بقوا على قيد الحياة مسيرتهم وقد تشققت حلوقهم من العطش. وظهرت لهم فتاة في ميعة الصبا، نبتت على جلدة رأسها زهور أقحوان بديعة المنظر، وخلفها رجل يحمل مرشة لا يفتر عن رش تلك الورود، وكانت المياه تسيل على عنق الفتاة وملابسها.


تحلقوا حولهما، وعرضوا على الرجل أموالاً جزيلة ليسقيهم، لكنه أبى، فطرحوه أرضاً وداسوا عليه بأقدامهم حتى لفظ أنفاسه، وفرت الفتاة، وشرب من الماء الذي في المرشة أربعون واحداً منهم، وعشرة فقط رفضوا أن يذوقوه.


وما كادت تمر ساعة من زمن حتى نبتت أشجار الصبار في رؤوس الشاربين، وخرجت عساليج الشوك من آذانهم ومناخرهم وعيونهم، ثم تشقتت أدمغتهم وماتوا شر ميتة.

وأما العشرة الذين نجوا من تلك الأهوال فتابعوا طريقهم وهم يتمنون إذا أتاهم الموت أن يموتوا بسلام.

تابع البقية طريقهم باتجاه مأرب وهم في حالة يُرثى لها من الجوع والعطش، وكان عددهم لا يزيد عن المئة.


وأقبل عليهم فتى مرح يسوق قطيعاً من الحمير، وعرض عليهم شراء حميره ليمتطوها ويتابعوا رحلتهم براحة، وباع الفتي في خمس دقائق حميره الخمسين، وقفل راجعاً يعد ماله الوفير. لكن الرجال والنساء الذين اشتروا الحمير وقعوا ضحية وهم لا يصدق: راحوا يمشون حاملين الحمير على ظهورهم وهم لا يشعرون بغرابة وضعهم! وما لبثوا سوى ساعة أو ساعتين حتى تساقطوا كالذباب أمواتاً من شدة الإعياء.

وفي اليوم الثالث صادفوا النبي حنظلة بن صفوان الذي أُرسل إلى أصحاب الرس، فسألوه أن ينقذهم من التيه في الصحراء، فنصحهم بأن يضحي كل واحد منهم بعضو من أعضائه، كفارة عن ذنوبهم. وما كاد يغيب عن أبصارهم حتى لاح أمامهم رجل يرتدي بدلة سوداء أنيقة وربطة عنق قرمزية، وأمامه ثلاجة ضخمة من تلك التي تُشاهد في السوبرماركت، وكان يبيع أعضاءً بشرية مجمدة: قلوب، كُلى، رئات، أكباد، ألسنة، عدسات، وأذرع وسيقان وعظام، كلها بحالة جيدة. فاصطف ألف منهم أمام ثلاجته، وراحوا يشترون الأعضاء البشرية، مؤملين أن يتحايلوا على القدر، ويضحوا بتلك الأعضاء المستعارة بدلاً عن التضحية بعضو أصيل من أعضائهم.


لكن شمس الصحراء المحرقة سرعان ما أذابتْ قطع اللحم المجمدة وذوبتهم معها، وتشكل من ذلك الخليط مستنقع قذر.

ثم ظهرت كبائن هاتفية، فأراد بعضهم الاتصال لطلب النجدة، للخروج من جحيم الصحراء، بعد أن نفدت مؤنهم، لكن الكبائن سحبتهم إلى الأسفل وغاصوا فيها، إذ كانت أرضياتها رمالاً متحركة.


ثم ظهرت مضيفة جوية حسناء خلف مكتب أنيق، قالت إنها تبيع تذاكر طيران إلى مئة مدينة ومدينة حول العالم، فانتظم ألف من الرجال والنساء في طوابير طويلة، ودفعوا ثمن التذاكر، متوقعين أن تهبط طائرة من السماء ما بين لحظة وأخرى.. ولكن انتظارهم طال كثيراً! إذ عثرت بعثة أثرية على عظامهم في عام 2030 وهم لم يتزحزحوا من مكانهم، لكن أموالهم لم تذهب هدراً، وقامت طائرة بنقل عظامهم إلى مستقرها الأخير في متحف الإنسان بمدينة (هزاف) المشاطئة لمدينة المخا.

تم تسفير أولئك الحالمين بالمنصب الرفيع إلى قلب صحراء رملة السبعتين في حافلات مكيفة، وأنزلوهم هناك، وأخذوا منهم هواتفهم وكافة أجهزة الاتصال، وسمحوا لهم بحمل كميات مقننة من الماء والطعام والنقود في الحقيبة التي تحمل على الظهر، وكان المطلوب منهم اجتياز الصحراء مشياً على الأقدام حتى يصلوا إلى معبد عرش بلقيس، حيث توجد صخرة سوداء مربعة، من يقعد عليها أولاً يعد فائزاً بمنصب رئيس الجمهورية.

 

توقد الحماس في دم التياهين بلياقتهم البدنية العالية، فأخذوا يتسابقون، ولكن هؤلاء البلهاء كانوا من أوائل من سقطوا وطحنتهم الصحراء بين شدقيها.

 

وفي اليوم التالي ظهرت باخرة ركاب فخمة، مثل فندق من فئة الخمس نجوم، تمخر رمال الصحراء بخفة، وهي تطلق أبواقها تحية لهم، وعلى سطحها نساء يخطرن في ثياب البحر وهن يلوحن بأيديهن.. فاستوقفها الرجال، وساوموا في ثمن التذاكر، ثم صعد ألف منهم إلى الباخرة المتجهة إلى مأرب. لكن الأجيال المتعاقبة ما تزال تتناقل حكاية خرافية عن اختفاء ألف شخص في سفينة بحرية لم تتبلل بمياه البحار مطلقاً.

عاد مؤتمر “الحوار الوطني” للانعقاد مجدداً، من أجل البحث عن مخرج من الأزمة السياسية الطاحنة التي تمر بها البلاد، وجرى استدعاء عالم الرياضيات ذاك للتشاور. ابتكر (إدوارد) اختبار قبول بالغ التعقيد، يكاد يصل في درجة صعوبته وتعقيده إلى مستوى النظرية النسبية لألبرت أينشتاين، ولأن مشروعه يستحيل فهمه، فقد وافق عليه الأعضاء في الحوار الوطني بالإجماع! 


عندما علم المتقدمون لشغل الوظيفة أن نسبة النجاح في اجتياز اختبار القبول المسمى “متاهة موسى” يصل إلى واحد في المليون، وأن الفشل في الاختبار يعني الموت المحتم، فقد تراجع عدد المتقدمين من أربعين مليوناً إلى أربعة آلاف فقط!

البقاء في متاهة موسى

تابعا طريقهما الرجل والمرأة، ثم سمعا هدير مياه سيل جارف آت من خلفهما، فالتفت الرجل وولى هارباً إلى تل مرتفع، وأما المرأة فلم تلتفتْ وتمالكت نفسها ولم تهلع، فغمرها السيل الدافق، وتركته يجرفها ولم تُصارعه، ثم إذا بالسلم الخشبي يُحاذيها، فطفت فوقه، وأخذها السيل إلى بحيرة سد مأرب، ومن هناك صعدتْ وسارتْ على ضوء البدر المكتمل، وفي السحر وصلت إلى معبد عرش بلقيس وقعدت على الصخرة السوداء.