منهج المركز اليمني للسياسات في التفكير باتجاه الأمام رؤية 2021: الجمع بين البحث العلمي الاستقصائي والبدائل التخييلية


ديسمبر 2020


مرايكا ترانزفيلد

منهج المركز اليمني للسياسات في التفكير باتجاه الأمام رؤية 2021: الجمع بين البحث العلمي الاستقصائي والبدائل التخييلية


٧ ديسمبر ٢٠٢٠

 في الوقت الذي تدخل فيه اليمن السنة السادسة من عُمْر الصراع، فإنَّ الدولة في هذا البلد في حالٍ من التشظي إلى أجزاء والأمة في حالٍ من الفوضى. فقد تفككت مؤسسات الدولة في البلاد إلى حد كبير، وأصبحت الانقسامات تطغى على قطاعها الأمني، وزاد من تفاقم هذا الوضع الاقتتال الداخلي ذو الخلفية السياسية، إضافة إلى استغلال القوى الخارجية للصراع، مع ما ظل يصاحب عملية الوساطة التي تقودها  الأمم المتحدة من عجزٍ في إحداث تقدمٍ يفضي إلى حل. وفي ظل هذه المعطيات، فإنه ليس من المستغرب ألّا يصبح لدى اليمنيين إلا القدر اليسير من الأمل، هذا إنْ لم يكنْ الأمل قد انعدم لديهم تماما، بخصوص تحقق حل سياسي يكون من شأنه إحياء الدولة التي عرفوها من قبل. في ظل انحسار الممارسة السياسية ووصولها إلى حيز النسيان على المستوى الوطني مع ما يصاحب ذلك من غياب لمناقشات تتسم بالشمولية، بالمعنى الحق للكلمة، حول طبيعة مستقبل سلمي محتمل للبلاد، فإنّ بؤرة الاهتمام الدولي قد تحوّلت باتجاه المستوى المحلي.

إنَّنا، بعملنا في المركز اليمني للسياسات، لا نصبو، فقط، إلى الإسهام في بناء السلام من خلال النقاش المتاح هنا، والذي لا نحصره، فقط، في حدود تسليط الضوء على السياسات المعتملة في المستوى المحلي؛ بل إننا نعمد إلى الارتقاء بالحلول الإبداعية المنتجَة على المستوى المحلي كي تصل إلى المستوى الوطني. ونحنُ نضطلع بهذه المهمة من خلال البحث الميداني الدقيق الذي يجريه المركز اليمني لقياس الرأي العام، المنظمة الشقيقة لمركزنا، ونشفع ذلك باستثمار لمعطيات “المنهج التخيلي” بخصوص قضايا الهوية ومسائل السياسات في مستوييها: اليومي غير الرسمي والوطني الرسمي. إنّنا في المركز اليمني للسياسات نؤمن بصدقية المقولة التي تذهب إلى أنَّ ” على باني السلام أنْ يضع قَدَما في الموجود وقَدَما أخرى في ما وراء الموجود”. وبذلك، فقط، نستطيع أن نبدأ في التفكير خارج الأطر الجاهزة ودون ارتهان للأفكار المعلَّبة، وأنْ نوِّلد قوة دفعٍ جديدة من أجل تحقق بناء السلام.

طيلة سنوات عديدة مضتْ دأب الباحثون الميدانيون في المركز اليمني لقياس الرأي العام على إجراء مئاتٍ من المقابلات مع ضباط أمنيين في طول البلد وعرضها. وكانت إحدى الدروس التي تعلمناها، عند اندلاع الصراع في 2015 في الجنوب الغربي من البلاد، أنَّ المؤسسات الأمنية قد أخذت في الانهيار في المناطق التي عانت من المعارك بصورة شديدة. ومن الأمور التي أدركناها، أيضا، كيف أنَّ العدول عن توحيد القوات العسكرية أو الأمنية بحيث تكون تحت مظلة ” الجيش الوطني” والاتجاه، عِوَض ذلك، نحو إعادة بناء المؤسسات من خلال جهود التجنيد ذات الطابع المحلي قد زاد من تجزئة وتشظية هذا القطاع.

لقد كان من شأن الدعم الإقليمي لكل ٍّ من قطاع أمن الدولة ولجهات فاعلة أخرى من خارج مؤسسات الدولة- كان من شأنه أنْ خلق فسيفساء من التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية، لها مهام ودوافع صراعية. فبعد طرد حكومة هادي من العاصمة المؤقتة عدن، أصبح المجلس الانتقالي الجنوبي يسيطر على الشرطة وعلى القوات شبه العسكرية داخل عدن وخارجها. وهذا بمثابة تشييد لأمر واقع يتحقق بموجبه ” الجنوب المستقل”  الذي يطمح  المجلس الانتقالي في نشوئه. أما في الشمال، فقد تعلمنا من البحث الذي أجريناه تلك الطرق التي عمد من خلالها “أنصار الله” الحوثيون إلى السيطرة على الدولة، وتتمثل، بصورة عامة، في الإضعاف الممنهج للبنيات القبلية إلى جانب استخدام قوات الأمن لسحق أية مساحات ممكنة للمعارضة. إنَّ هذه الدينميات قد جعلت الطريق مسدودا أمام عملية السلام.

لقد ترتب على هذا الانسداد في المستوى الوطني انفتاح المجال أمام فرص أعظم في المستوى المحلي. وعلى الرغم من أنّ أطراف النزاع تعمد إلى تجنيد الصحفيين والمثقفين والمجتمع المدني والزعماء الدينيين للدفاع عن سردياتهم المتصارعة وتعزيزها، وأنَّ صدع الانقسامات السياسية قد طال المجتمعات والأحياء والعائلات-على الرغم من كل ذلك، فإنَّ شبكات اللاعنف لا تزال قائمة.  هاهنا؛ في ظل هذه الملابسات، وبرغم كل الصعاب، نجد أن أصحاب المبادرات المجتمعية والقائمين على منظمات المجتمع المدني والفنانين والمثقفين يواجهون الوضع الراهن الذي أوجدته أطراف النزاع بتحدٍ و إصرار.

ومن القصص التي نشرتها مجلة المدنية، وهي أحد مشاريع المركز اليمني للدراسات، إلى جانب قصص أخرى، قصة مجوعة “نساء حضرموت من أجل السلام” ونضالهن من أجل فتح الطريق وإعادة تشغيل مطار الريان. كما إن المبادرات الشبابية كمبادرة ” ميميز في حضرموت” أو ” المركز الثقافي في صنعاء” أو ” مؤسسة البيسمنت” كلها، إلى جانب غيرها، قد أسهمت، وما تزال، في إحياء الثقافة والفن في سياق مجتمعات محلية مختلفة في اليمن. وكذلك تلك “المبادرات الشبابية الطوعية في تعز”، التي تقدِّم نموذجا يحتذى في النشاط في مجال حماية البيئة وفي الجهود الطوعية من أجل توزيع الطعام والدواء وتوفير الأمن. وبسبب توقف الدعم الحكومي ونشوب الصراع العنيف، فإن الأهالي في بعض القرى اليمنية قد تداعوا من أجل توفير التعليم لأبنائهم، كما هي الحال في “قرية ماريا” بذمار. ومن ناحية أخرى سعت منظمات المجتمع المدني إلى تعزيز سيادة القانون عبر تدريب المنتسبين إلى قطاع الشرطة وكذلك “عقال” الحارات على العمليات الإدارية.

وفي حين أنَّ مؤسسات الدولة اليمنية قد غدت متشظِية بصورة تبعث اليأس من حدوث إصلاح لها في المدى المنظور، فإنَّ إطار المحادثات الذي ترعاه الأمم المتحدة ويتوقع منه أن يعيد خلق واقع الحال كما كان في فترة ما قبل الصراع، هو إطار لا يملك إلا قدرا ضئيلا من إمكانية إقناع أطراف الصراع كي يجنحوا لتسوية سياسية. ومن هنا، فإنَّ العودة إلى واقع ما قبل الصراع يبدو احتمالا مستبعدا في ظل الوقائع المتغيرة على الأرض. فمنذ اندلاع الصراع أصبحت الممارسة السياسية بين المكونات الوطنية في عداد المنسي؛ فمن ناحية تضاءل وجود المؤسسات التي كان لها حضور في أجزاء متعددة من البلد حتى انعدمت، وانتهى مصير النخب باللجوء في دول أخرى. أما المجموعات السياسية الموجودة في البلد، فإنها ما تزال، كما يظهر، مستمرة في تمزيق الدولة أكثر من توجهها نحو تسوية يكون من شأنها توحيد البلد. هذا؛ علاوة على أنَّ النقاش العام حول صورة السلام الممكنة في اليمن، وحول شكل الدولة التي يمكن أن تحقق السلام هو نقاش ضعيف للغاية بشكل مثير للريبة.

ونود أن نشير هنا إلى أنَّ البروفيسور جون ليدراش، وهو مختص في مجال بناء السلام الدولي، ولديه خبرة عمل في كلٍّ من الصومال وشمال إيرلاندا ونيكاراغوا وكولومبيا والنيبال، يذهب إلى أنَّ ” الخيال الأخلاقي” مطلوب من أجل ” توليد عمليات بنّاءة كامنة في طيات التحديات اليومية الناتجة عن العنف، غير أنها تتجاوز هذه الأنماط الهدّامة”؛ وطبقا لذلك، فـ”ـالخيال الأخلاقي” هو القدرة التي من شأنها النهوض عاليا فوق ” الانقسامات وتتخطى المعاني المقبولة”. ومدار هذا النهج يتمثل في اكتشاف ” زوايا جديدة وفرصٍ مسكوت عنها وإمكانات لم تكن متوقعة”. وحتى يكون لدى هذا الخيال الأخلاقي القدرة المطلوبة، فلا بد من أنْ يتاح له فضاء للإبداع كي يتجّلى فيه. ونحنُ، في المركز اليمني للدراسات، نسعى إلى ربط التحليل السياسي القائم على البحث الاستقصائي الامبيريقي مع الرؤى الخلّاقة بخصوص مستقبل اليمن؛ وذلك من أجل أن يتمكن هذا الخيال الأخلاقي من أن يجد طريقه نحو الانبثاق والظهور.

إنّ مشروعنا المموّل من طرف وزارة الخارجية الألمانية يشمل المكونات الآتية: “مجلة المدنية”، و”المِشْكَال”، بالإضافة إلى “المجلس” المخصص للتعليقات السياسية والأبحاث القائمة على الاستقصاء العلمي. وكلها تهدف إلى أن تتيح للقارئ الفرصة كي يطلق العنان لخيال مختلف جديد بخصوص التعقيدات التي تنطوي عليها الحرب في اليمن. ونحن نريد أن نستخدم هذا المنهج التخييلي الجديد من أجل تحديد المبادرات الأهلية المحلية بخصوص بناء السلام في اليمن وإظهار الحلول الخلّاقة، ومن ثم- إنْ كان ذلك منطقيا- نربطها بعملية صناعة السلام على المستوى الوطني.

إن المركز اليمني للسياسات يضطلع بهذا العمل من خلال نهجٍ عابر للتخصصات تترابط في إطاره فروع أكاديمية متعددة. فنحنُ نشرك كُتاب السرد الأدبي وفنانين، ونربط البحث المبني على الاستقصاء العلمي الاستقصائي بالكتابة التخييلية. وهذا يتيح لنا الاستفادة من الخبرات التي يتوفر عليها شابات وشباب ممن أتيح لهم الحصول على فرصٍ تعليمية خارج اليمن، خلال مرحلة الحرب، وتمكنوا من العودة محملين بما استلهموه من مجتمعات ذات نظم أخرى. وهم يتشاركون في هذا الفضاء المتاح مع زميلات وزملاء لهم ممن يعيشون واقع الحرب في البلد بما في ذلك من صدمات نفسية يخبرونها يوميا.

إنّ مؤتمر الحوار الوطني، بما خرج به من آلاف التوصيات من أجل الدولة اليمنية المستقبلية، هو الأقرب إلى الذاكرة الحاضرة  بخصوص ما توصلت إليه البلد من رؤى تتعلق بالمستقبل و يمكن أن تكون بمثابة نقطة الانطلاق لإجراء مداولات ذات إطار يشمل الجميع. وعند هذه النقطة، فإننا قد عمدنا، من جهتنا، إلى تفعيل منهجنا التخييلي؛ وتساءلنا: كيف إنْ تم لمؤتمر الحوار الوطني التوصل إلى إجماع وطني؛ كيف إنْ حدث ونجح الحوار الوطني؟ وكيف يمكن أن تكون اليمن اليوم إنْ حدث ذلك؟ وكيف ستكون عليه حالها بعد 20 عاما من الآن؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه من ذلك حتى نتمكّن من صنع السلام اليوم؟

في الأسبوع القادم سننشر قصة قصيرة من إبداع الكاتب اليمني المرموق وجدي الأهدل. القصة تأخذ القارئ في رحلة مع التغيير السياسي في اليمن في مدار أفقٍ من التخيُّل الرؤيوي. وسنتبع القصة بنشر مقالة تحليلية عن دور المثقفين اليمنيين في إحداث التغيير وصناعة السلام. ومن خلال إظهار الجهود المحلية المنصبة على قضية بناء السلام  وتخيّل  شكل الحلول الممكنة على المستوى الوطني، فإننا نأمل في أن نسهم في إحداث نقاشٍ مثمرٍ بخصوص السلام في اليمن.

المترجم: عبدالسلام الربيدي

المحرر: مرايكا ترانزفيلد

تصوير: معين الإرياني

المانح: وزارة الخارجية لجمهورية ألمانيا الاتحادية
Share on Facebook
Share on Twitter
Share on LinkedIn

References :

[1]YPC nationwide representative survey, April–July 2019. Data cited in this paper is drawn from this survey unless otherwise indicated.

[2] UN News “Humanitarian crisis in Yemen remains the worst in the world, warns UN” Feb 2019. https://news.un.org/en/story/2019/02/1032811 (Accessed 3 March 2020).

[3] Wadhah Al-Awlaqi and Maged Al-Madhaji, Rethinking Yemen’s economy: Local governance in Yemen amid conflict and instability, July 2018. https://devchampions.org/files/Rethinking_Yemens_Economy_No2_En.pdf (Accessed 8 March 2020); Mansour Rageh, Amal Nasser, and Farea Al-Muslimi, “Yemen without a Functioning Central Bank: The Loss of Basic Economic Stabilization and Accelerating Famine,” Sana’a Center for Strategic Studies, November 2016. http://sanaacenter.org/publications/main-publications/55 (Accessed 23 May 2018).

[4]Data source: OCHA, “Humanitarian needs overview 2019: Yemen”, December 2018. https://yemen.un.org/sites/default/files/2019-08/2019_Yemen_HNO_FINAL.pdf (Accessed 11 March 2020).

[5] Final report of the Panel of Experts on Yemen, addressed to the President of the Security Council, January 2020. https://undocs.org/S/2020/70 (Accessed 11 March 2020).

[6] Mareike Transfeld, “Implementing Stockholm: The Status of Local Security Forces in al-Hodeidah,” YPC Policy Report, Yemen Polling Center, Policy Report, November 2019. http://www.yemenpolling.org/Projects-en/ICSP_EU_HodeidahReport2019November30.pdf (Accessed 16 February 2020).

[7] Mareike Transfeld and Shaima Bin Othman, “The State of the Police in Western Yemen”, YPC research debrief, Yemen Polling Center, Research Debrief, January 2020. https://www.yemenpolling.org/4325/ (Accessed 16 February 2020).

[8] Amnesty International, “Yemen: Fierce new offensive displaces tens of thousands of civilians from Hodeidah” May 2018. https://www.amnesty.org/en/latest/news/2018/05/yemen-fierce-new-offensive-displaces-tens-of-thousands-of-civilians-from-hodeidah/ (Accessed 5 March 2020).

[9] Maged Sultan, Mareike Transfeld and Kamal Muqbil, “Formalizing the Informal State and Non-State Security Providers in Government-Controlled Taiz City,” YPC Policy Report, Yemen Polling Center, July 2019. https://yemenpolling.org/advocacy/upfiles/ICSP_EU_FinalTaizReport2019July19.pdf (Accessed 16 February 2020).

[10] Nadwa al-Dawsari , “Tribal Governance And Stability In Yemen “, The Carnegie papers, Carnegie endowment (April 2012). https://carnegieendowment.org/files/yemen_tribal_governance.pdf (Accessed 5 March 2020).

[11]CIVIC, “We Did Not Know If We Would Die From Bullets Or Hunger” Civilian Harm and Local Protection Measures in Yemen “, Jan 2019, https://civiliansinconflict.org/wp-content/uploads/2020/01/YEMEN_BulletsorHunger_FINAL_PROOF.pdf (Accessed 5 March 2020).

[12] Fatima Saleh and Ahmed al-Sharjabi “Institutional Prerequisites for the STC “Coup” in Aden and Perspectives on the Jeddah Deal” , research debrief, Yemen Polling Center, Oct 2019. https://www.yemenpolling.org/institutional-prerequisites-for-the-stc-coup-in-aden-and-perspectives-on-the-jeddah-deal/ (Accessed 16 February 2020).

[13] Human Rights Watch, “Yemen: Riyadh Agreement Ignores Rights Abuses”, December 2019, https://www.hrw.org/news/2019/12/12/yemen-riyadh-agreement-ignores-rights-abuses Accessed 5 Mar 2020; Human Rights Watch,  “Yemen: UAE Backs Abusive Local Forces” June 2017.

النشرة البريدية للمركز اليمني للسياسات
تابعنا على شبكات التواصل الإجتماعي
النشرة البريدية للمركز اليمني للسياسات
تابعنا على شبكات التواصل الإجتماعي
×