محمد الإرياني

عمل الشرطة في دولة مفككة: صمود المؤسسات المحلية في تعز


مارس 2022

في مسح وطني أجراه المركز اليمني لقياس الرأي العام في عام 2019، ذكر 42% من سكان تعز أنهم سيتوجهون إلى الشرطة أولاً في حال وقوع جريمة. وقال حوالي نصف من شملهم الاستطلاع أنهم سيشعرون بمزيد من الأمان إذا وُجد المزيد من ضباط الشرطة في المنطقة1. وبرغم الدور الكبير الذي يقوم به مسئولو الأمن غير الرسميين كالشيوخ وعقال الحارات فلا يجب التقليل من أهمية الشرطة من أجل سلامة المجتمع وأمنه2. وعلى الرغم من كل التحديات التي واجهتها الشرطة نتيجة الحرب المستمرة، إلا أنها صمدت وكانت قادرة على الاستمرار في توفير الخدمات الأمنية، حيث تقوم الشرطة بالتعامل مع الجرائم الصغيرة والنزاعات المدنية بشكل روتيني. وعادة ما تحال قضايا الجرائم إلى قسم التحقيق في الجرائم بعد تحرير محاضر شرطة المديرية وتقديم التقارير اللازمة. أما النزاعات المدنية مثل خلافات الإيجار والجرائم الطفيفة، فعادة ما يتم حلها بطرق غير رسمية سواءً بالتحكيم أو بإحالتها للقضاء.

عندما جُمعت بيانات المسح في ربيع/ صيف عام 2019، كانت مؤسسات الشرطة على مستوى المديريات والعُزل في تعز في حالة مزرية، فقد مارس الكثير منها مهامها في أبنية متضررة أو غير ملائمة وبموارد قليلة أو معدومة، وبدون تمويل. وقد أكد رؤساء أقسام الشرطة من الذين أُجريت معهم المقابلات من أجل هذا البحث في ثمان مديريات في تعز أنه لا توجد ميزانيات تشغيلية لأقسام الشرطة على مستوى المديريات والعُزل، وأن الرواتب كانت تٌدفع على نحو متقطع. ورغم ذلك تمكن الضباط في أقسام الشرطة هذه من مواصلة أشغالهم، وإن كان على مستوى بدائي. وقد ذكر 29 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع أن الشرطة في تعز كانت أولى الجهات الأمنية استجابةً3، مما يشير إلى صمودها على الرغم من الصدمات التي تعرضت لها بسبب الحرب. وقد كشفت المقابلات التي أجريت مع الرؤساء من الثمان مديريات والعُزل4  بين يوليو وأغسطس 2021 أن الشرطة تعتمد على كل من المساهمات المادية الذاتية ورأس المال الاجتماعي وتسليع خدماتها، مما يعني أن الخدمات العامة كانت تباع كخدمات خاصة. وفي الواقع، يبين البحث أن كلاً من هياكل الفساد والعلاقات الاجتماعية الموجودة مسبقًا سهلت صمود قطاع الشرطة، مما أتاح للمؤسسات الاستمرار في العمل بالرغم من تفكك الدولة.

باتباع منطق بناء الدولة ونموذج بناء السلام المألوفين، فإن ضبابية الخطوط الفاصلة بين الهياكل الرسمية وغير الرسمية عادة ما يتم النظر إليه على أنه يتسبب في تقليل كفاءة مؤسسات الدولة، مما يتطلب إعادة بنائها على نحو تكنوقراطي5. إن البحث الذي أجري من أجل هذه الدراسة مهّد الفرصة لإعادة التفكير في مناهج بناء الدولة ونشر السلام، حيث يقدم رؤى ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند الانخراط في مشاريع المؤسسات المحلية. فهذه الدراسة تحاول إعادة النظر في بناء الدولة باستخدام الموارد والشبكات المحلية. وقد تم تبني وتطوير ممارسات الحفاظ على البقاء التي اعتمدتها الشرطة المحلية –كما توضح الدراسة- من قبل المؤسسات المحلية الأخرى للدولة؛ فمثلاً في القطاع الصحي تمول المستشفيات عملياتها بأكملها عن طريق تسليع خدماتها. وبرغم الخطورة التي يحتمل أن تنطوي عليها بعض الممارسات اللازمة لاستمرار عمل الشرطة على سلامة المجتمع، إلا أن الشرطة لن تتمكن من الاستمرار في مواصلة العمل بدون استراتيجيات كهذه. ولكن إذا تمت إعادة تصنيف هذه الاستراتيجيات القائمة تحت مسمى الحفاظ على البقاء، فقد يقدم ذلك فرصة لإعادة التفكير في العلاقة بين الدولة والمجتمع ومناهج الحكم المحلي وسلامة المجتمع والمسؤولية تجاهه.

 مواجهة الشرطة لتحديات الحرب والنهب ونقص التمويل

انهار القطاع الأمني في تعز أثناء توغل الحوثيين عام 2015، مما خلق فراغاً أمنياً ملأته الجهات الأمنية غير الرسمية، وتحديداً مجموعات المقاومة المسلحة التي ظهرت من أجل الدفاع عن المدينة. وقد تمكن الحوثيون من السيطرة على إدارة الأمن على مستوى المحافظة نتيجة تحالفهم مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، مما يعني أن التوجيهات إلى مراكز الشرطة لم تعد تأت من الحكومة المعترف بها دولياً، بل من الحوثيين. ونتيجة لذلك، ترك الضباط في جميع أنحاء المحافظة مواقعهم، مخلفين وراءهم أقسام الشرطة بلا أفراد وعلى حافة الانهيار. وقد انضم العديد من رجال الشرطة المحليين لجبهات القتال ضد الحوثيين لأنه وبعكس رواتب أفراد الشرطة فإن رواتب العسكريين استمرت. وبناء على ملاحظات جمعها باحثون من أقسام الشرطة، أفاد أولئك الباحثين أن غالبية أقسام الشرطة قد دُمرت أو نُهبت أثناء الحرب. وقد وصف رئيس أحد أقسام الشرطة تأثر مبنى قسم شرطة حكومي بالقتال قائلاً: “لم تعد هناك نوافذ أو أبواب، هناك فقط فجوات في الجدار سببتها الصواريخ”.6

في يوليو من عام 2016 بدأت الحكومة المعترف بها دولياً في بناء القطاع الأمني، حيث بدأت بشكل رئيسي بإعادة بناء إدارات الأمن على مستوى المحافظة،7 تلا ذلك خطوات أخرى شملت إعادة دفع الرواتب، وتجنيد القوات ضمن فروع مختلفة من القطاع الأمني ودمج الجماعات المسلحة الغير رسمية ضمن الجهاز الأمني الرسمي. ومع ذلك، فقد تم التعاطي مع إعادة بناء قطاع الشرطة بطريقة تتبع نهجاً من أعلى إلى أسفل، بدافع البقاء السياسي عوضاً عن الأمن المجتمعي، وتم تركيز جهود الحكومة على الإدارات الأمنية على مستوى المحافظات وإهمالها للمديريات والعُزل. وكنتيجة لذلك فإن مراكز الشرطة على مستوى المديريات والعُزل لم تعد تفتقر للموارد المهمة فحسب (بما في ذلك المركبات والأسلحة)، بل أصبحت تفتقر أيضا للبنية التحتية (بما ذلك المباني الملائمة والتمويل والأثاث المكتبي الأساسي ووسائل الاتصالات (الهواتف والفاكسات وأجهزة الكمبيوتر) والقرطاسية.

أوضح أحد رؤساء أقسام الشرطة قائلاً إنه “لا توجد موازنة تشغيلية ثابتة، ونادراً ما نستلم موازنة تشغيلية مرة كل عشرة أشهر، بما يعادل مائة ألف ريال يمني8”. “، حيث كانت هناك تغيرات جذرية من حيث حجم الأموال المتوفرة للحكومة الوطنية، وإجراءات الموازنة الحالية لا تتبع قانون السلطة المحلية الصادر عام 2000م وهي تستثني المؤسسات المحلية.9 وعلى الرغم من أن الإجراءات المالية لم تكن من بين مزايا الحكومة اليمنية فإن عدم وجود مساءلة حاليا قد أدى إلى تجفيف شبه كامل للأموال قبل وصولها إلى المؤسسات على المستوى المحلي. أكد جميع رؤساء أقسام الشرطة على المستوى المحلي بأنهم لا يتلقون ميزانية سنوية بالرغم أن وزارة الداخلية لديها ميزانية تقارب 208 مليون دولار في السنة.10 وبينما تقوم السلطات المحلية بتحصيل الضرائب وتحويل المبالغ إلى قطاع الشرطة على مستوى المحافظة، يصف خبراء أمنيون الميزانية وأولوياتها باعتبارها “تساء إدارتها” على جميع مستويات الحكومة.11

تسليع الخدمات الأمنية

في سياق الأزمة الاقتصادية في اليمن وتشظي الدولة على المستوى المحلي، تحرك القطاع العام باتجاه تسليع الخدمات العامة. حيث تحول تقديم الخدمات عموماً إلى نشاط تجاري. وعلى وجه التحديد، فإن هذا يعني أن مقدم الخدمة يسعى لتغطية معظم أو كل تكاليفه مباشرة من مستخدم الخدمة الفردي12. فعلى سبيل المثال، تقوم المستشفيات بتغطية نفقاتها التشغيلية من خلال رفع أسعار الخدمات الصحية13. ومع هذا التحول انتقل تمويل الخدمات التي تقدمها الدولة (جزئياً) من القطاع العام إلى المجتمع. وقد شهد قطاع الشرطة تحولاً مماثلاً، إذ تطلب أقسام الشرطة أجراً مقابل الخدمات المطلوب منها توفيرها بموجب القانون بما ذلك إصدار الوثائق الرسمية، أو الاستجابة للحالات المبلغ عنها من قبل أفراد في المجتمع. وقد أظهر استطلاع للمركز اليمني لقياس الرأي العام في عام 2019 أن 43 بالمائة من المدنيين الذين تواصلوا مع الشرطة للحصول على وثائق رسمية في تعز أفادوا بأنه كان يتعين عليهم دفع “رشوة”. وقد تأتي المدفوعات التي تطلبها الشرطة على شكل مبالغ نقدية أو في شكل مواصلات أو غداء. وأوضح أحد رؤساء أقسام الشرطة: “لماذا ندفع تكاليف المواصلات والغداء أو أي نفقات أخرى من جيوبنا؟ فهذا هو الحد الأدنى من المتطلبات بالنسبة لنا لمعالجة قضية”.

بالنظر إلى مكانة الشرطة كمؤسسة تابعة للدولة فإن ضباطها قادرون على استخدام شرعية الشرطة لتحقيق دخل من الخدمات التي يقدمونها للمجتمع مثل التعامل مع الشكاوى المدنية أو الجنائية وتقديم الوثائق الرسمية. وفي كثير من الجوانب، كان الفساد الموجود قبل الحرب بشكل تقليدي داخل قطاع الشرطة هو من سمح بتسليع الخدمات كاستراتيجية للبقاء. حيث كان هناك داخل المجتمع قدر معين من التعاطف مع الشرطة وقبول لفساد بالمؤسسات الحكومية بشكل عام.14 ووفقًا لمسح أجراه المركز اليمني لقياس الرأي العام على مستوى البلاد في عام 2019 فإن 78 بالمائة من سكان تعز يعتقدون أن الشرطة ستكون أقل فسادًا إذا تم دفع رواتب أعلى لها. إزاء هذا طورت مراكز الشرطة خدمات “جديدة” في محاولة لجمع الإيرادات. على سبيل المثال، تقدم الشرطة خدمات الحماية الخاصة بمقابل نقدي على غرار الطريقة التي تقدمها شركة الأمن الخاصة لرجال الأعمال أو الشيوخ أو غيرهم من الأشخاص الميسورين مادياً. وقد أفاد المسح بأن العدد القليل من أقسام الشرطة التي تحتوي على مركبات للشرطة تقوم بعرضها للإيجار للقطاع الخاص لفترات معينة.15 وفي الواقع أفاد خبراء أمنيون من تعز أنه في عام 2016 ظهر ما يقرب من 20 قسم “غير رسمي” للشرطة مع تعريف موظفيها لأنفسهم باعتبارهم يتبعون شرطة الدولة التي أصبحت خدماتها تباع بالكامل. وبينما تم إغلاق معظم هذه الأقسام في إطار عملية إعادة إنشاء قطاع الأمن فلا يزال بعضها يعمل حتى يومنا هذا.

من الواضح أن هناك مخاطر جدية مرتبطة بتوجه تسليع خدمات أمن الدولة. ففي حين أوضح ضباط الشرطة أن نقص مركبات الشرطة يؤثر سلبًا على أداءها من ناحية، فمن ناحية أخرى تساهم أقسام الشرطة بشكل فعلي في نقص المركبات من خلال تأجيرها لتحقيق مكاسب مالية. أما الخطر الآخر هو أن الوعود بالأرباح المالية تحفز الشرطة على خرق نفس القوانين التي من المفترض أن تطبقها وتمتثل لها في تصرفاتها. وعلى سبيل المثال، وردت تقارير عن قيام مراكز الشرطة بسجن الأفراد بشكل تعسفي أو بإطالة أمد سجن أولئك الذين سبق أن أمرت المؤسسات القضائية بالإفراج عنهم وكل ذلك مقابل مدفوعات مالية.16

تسهل الشبكات الاجتماعية الناشئة قبل الحرب عمليات الشرطة

تلقت أقسام الشرطة على المستوى المحلي دعماً من مجتمعاتها مما ساعدها على استمرار عملياتها. كما تلقت الشرطة دعماً من رجال أعمال محليين. وهذا الدعم لا ينبع من رغبة رجال الأعمال بحماية ممتلكاتهم الشاغرة من الاستيلاء غير القانوني فحسب، بل ينبع أيضًا من رغبة بعمل الخير ​​لأنهم قادرون على تقديم هذه المساهمات في وقت يضعف فيه تحصيل الضرائب. وعلى سبيل المثال، قدم قطاع الأعمال خدمات مجانية للعديد من أقسام الشرطة في تعز، ويشمل ذلك الكهرباء من الشركات الخاصة والمياه المنقولة في صهاريج المياه من الآبار الخاصة. كما قام رجال الأعمال في تعز بتوفير مبانٍ مؤقتة لأقسام الشرطة للعمل منها بدلاً من تلك التي دُمرت خلال الحرب. وأوضح رؤساء الشرطة أن الماء والكهرباء والأثاث يتم توفيرها من قبل رجال الأعمال والمواطنين الذين يدعمون القسم. إن هذه النماذج من الترتيبات بين الشرطة المحلية وكل من القطاع الخاص وأفراد المجتمع لهي أمر شائع.

يساعد الدعم المجتمعي القطاع الأمني لمواصلة عمله. إزاء هذا، فقد أدت الولاءات السياسية القوية ضمن القطاع الأمني إلى جانب عدم توفر ميزانية من المؤسسات على المستوى الوطني بالإضافة إلى تسليع الخدمات العامة إلى التنافس بين الجهات الفاعلة في القطاع العام. من جانب آخر، هناك سباق لتكديس الموارد بين الأحزاب السياسية المختلفة وشبكاتها داخل مؤسسات الدولة من خلال البحث عن الدخل والذي يتسارع بفعل الرغبة في البقاء. من جهة أخرى، ونظراً لهيمنة حزب الإصلاح على مؤسسات الدولة بداخل مدينة تعز، حيث تم استبعاد معظم الفاعلين المنتمين إلى أحزاب أخرى من المدينة- فهناك أيضاً منافسة داخل وبين المؤسسات التي يديرها الإصلاح والتي غالباً ما تظهر بين مختلف فروع قطاع الأمن. وعلى سبيل المثال قامت الألوية العسكرية بتحديد الأسواق والطرقات باعتبارها مواقع مربحة وأقامت منذ بداية الصراع نقاط تفتيش لجمع الضرائب على البضائع بشكل غير رسمي.17 وقد قامت الجهات العسكرية بتهميش الشرطة في هذه الأماكن بغض النظر عن تفويض كل منها.18 ونظراً لأن الجهات العسكرية أكثر تسليحاً مقارنة بالشرطة؛ فإن هذه الأخيرة غير قادرة على فرض نفسها عند مواجهتها للجيش في الأماكن العامة (عندما يتدخل الجيش في عمل جار للشرطة أو عندما تكون هناك حوادث متعلقة بالجيش).

الاستثمار الشخصي والإبداع

في مواجهة الفجوات الهائلة في الموارد والتمويل في أقسام شرطة المديريات والعٌزل، فإن الاستثمار الشخصي والإبداع في التحايل على التحديات من العوامل الهامة التي أتاحت لقطاع الشرطة مواصلة العمل على الصعيد المحلي. إذ يستخدم رؤساء أقسام الشرطة التمويل الشخصي والموارد الخاصة ليس فقط لتوفير بعض الموارد الأساسية (بما في ذلك الوقود، والقرطاسية، والأثاث المكتبي، أو فواتير الكهرباء) ولكن أيضاً لتسهيل عمل الشرطة. فعلى سبيل المثال، تُبذل جهود لحماية أرشيف أقسام الشرطة. وقد أفاد اثنان من رؤساء أقسام الشرطة أن ظروف مراكز الشرطة سيئة للغاية بحيث لا يمكن تخزين المعلومات بأمان. حيث يأخذ أحد رؤساء أقسام الشرطة الوثائق المهمة إلى لمنزله للحفاظ عليها، في حين أوضح آخر أننا “لا نحتفظ بأي ملفات في القسم وقد قمنا باستئجار غرفة صغيرة مقابل المبنى للأرشفة. وتستأجر هذه الغرفة بعشرة آلاف ريال في الشهر ويدفع رئيس القسم هذا الإيجار من راتبه”.19

عدا عن رؤساء الشرطة فإن ضباط الشرطة العاديون يقومون أيضاً بتمويل موارد الشرطة من دخلهم الشخصي. ووفقاً للمقابلات، فإن رجال الشرطة يقتسمون تكاليف خدمات التنظيف بين الموظفين ويستخدمون هواتفهم النقالة الخاصة للعمل، وعندما يحتاج أحد الزملاء في القسم إلى العناية الطبية، يساهم أعضاء الفريق جميعاً مالياً. ووصف رؤساء الشرطة المحلية في تعز الافتقار إلى المركبات والأسلحة في مراكز الشرطة بأنه عقبة كبيرة؛ ونتيجة لذلك تواجه الشرطة صعوبة في الاستجابة للحوادث. وبالتالي فإن الشرطة لكي تتمكن من التنقل تستخدم السيارات الشخصية ووسائل المواصلات الخاصة التي يوفرها المدنيون للوصول إلى مواقع الجريمة أو مواقع الدوريات، كما يستخدمون أسلحتهم النارية الشخصية لحماية أنفسهم.

وتضع الفجوات في التمويل والموارد رؤساء الشرطة في مواقف يحتاجون فيها إلى المناورة بصورة خلاقة على العقبات التي قد تسبب تحديا وجوديا للقسم. فنظراً لانخفاض عدد الأسلحة التي بحوزة الشرطة، فإن هناك حالات معينة لا تتعامل معها الشرطة بشكل قاطع؛ ويشمل ذلك حالات تتعلق بجماعات مسلحة. وفي هذه الحالات، تقوم مراكز الشرطة في المديريات والعُزل بنقل القضايا إلى إدارة الأمن على مستوى المحافظة أو تطلب تعزيزات. وفي حالات أخرى، التمست مراكز الشرطة بشكل استباقي الدعم من منظمات المجتمع المدني وأصحاب الأعمال من خلال تقديم مقترحات بالتمويل. وكان هذا هو الحال عندما اقترح ضباط الشرطة على منظمات المجتمع المدني المحلية تمويل قسط مالي لنظام مراقبة أمني بالكاميرات في المدينة. وقد مولت هذا النظام عدة منظمات محلية، وقيل إنه أدى إلى تحسن كبير في الأمن في تعز. وقد حققت الشرطة دخلاً إضافياً عندما طلبت من المحلات التي ركبت فيها كاميرات أن تساهم بمبلغ 100 دولار لتمويل هذا النظام.20

من تسليع الخدمات إلى الضرائب/ مخاوف تتعلق بالإنصاف والشرعية

كان رؤساء أقسام الشرطة مترددين في الحديث عن المصادر البديلة للدخل التي تساعد اليوم في استمرار عمليات الشرطة، ويُرجع ذلك إلى أن هذه الممارسات تُفهم في المجتمع باعتبارها شكلاً من أشكال الفساد. على سبيل المثال، أوضح أحد رؤساء أقسام الشرطة: “نحن لا نأخذ المال، وهو فقط من أجل بدل المواصلات لأفراد الشرطة. في بعض الأحيان نحتاج أن نقوم بمهمة أمنية أو شيء من هذا القبيل، ولذلك ربما نأخذ المال كبدل مواصلات. نحن لا نجبر الناس على دفع المال لنا، ولكنهم يعطونا إياه طواعية. مع ذلك قد تكون هناك حالات نادرة يقوم فيها شرطي بابتزاز مواطن أو يطلب منه الحصول على المال في مقابل خدمة أمنية، الأمر الذي قد يحدث أحياناً بسبب نقص الأجور والرواتب والنفقات التشغيلية، لكن في معظم الحالات يدفع الناس لنا بشكل طوعي”. والواقع أن المسوحات كما ذكر من قبل تظهر بشكل عام اتجاهاً إيجابياً في الردود الواردة من اليمنيين عند سؤالهم عن الشرطة. ومع ذلك، أثارت مناقشة حول هذا الموضوع في حلقة على بودكاست كاليدوسكوب21 ردوداً سلبية في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث وصف غالبية الجمهور الشرطة بأنها فاسدة مما يشير إلى أن الآراء السلبية تجاه الشرطة قد تكون أكثر انتشاراً ضمن بعض الفئات المجتمعية. وعلى الرغم من وجود تنوع في “النشاط التجاري” داخل قطاع الشرطة فإن الممارسات الآن تختلف عن فترة ما قبل الحرب من حيث المدى الذي يطلب فيه رجال الشرطة مقابلاً مالياً.

ما هو المسار القادم؟ فمن غير المرجح أن تشهد اليمن مشاريع ضخمة لبناء الدولة في المستقبل، لا أثناء الحرب الجارية في البلاد ولا بعدها. وعلى كل حال، فإن النموذج الليبرالي لبناء السلام عموماً ومناهج إصلاح قطاع الأمن التقليدي كانت عرضة للانتقاد بوجه خاص. إذ لا توجد أدلة تذكر أن هذه المناهج التقليدية لإعادة بناء الشرطة والأمن ناجحة بالفعل. وأحد الردود على الانتقادات أن “المنعطف المحلي” في النقاشات الخاصة ببناء السلام والذي يدعو الممارسين إلى الكشف عن السرديات والتجارب والنضالات الغير مستكشفة المحلية واليومية التي كثيراً ما تخفيها أو تغفلها المناهج العلمية السائدة وبعثات الأمم المتحدة لبناء السلام على الأرض.22 وعلى نفس المنوال، يقول تيموثي دونايس وأحمد بارباك أنه في محاولة للجمع بين النتائج المرغوبة والنتائج التي يمكن تحقيقها لإصلاح قطاع الأمن، فإن المناهج يجب أن تكون مستندة على الممارسات المحلية.23 وإزاء خلفية من السلوكيات القديمة من غير المرجح أن تتغير في إطار المشاريع الممولة من المانحين، فإنه ينبغي النظر في اتباع نهج عملي من المرجح أن يسفر عن نتائج إيجابية.

وتتيح الإيرادات التي تدرها الشرطة المحلية بالطريقة الغير معتادة على مواصلة عملياتها عن طريق تغطية النفقات الصغيرة وحتى الإيجارات. فمن ناحية، يحل تسليع خدمات الشرطة مشكلة المرتبات المنخفضة أو غير الموجودة، مما يوفر حافزاً لضباط الشرطة على مواصلة العمل، وعلى الصعيد المؤسسي تتوفر ميزانية تشغيلية. بدون استراتيجيات التأقلم هذه، ستزول الشرطة على المستوى المجتمعي. وبالتالي، فإن هذه الاستراتيجيات في مراكز الشرطة على المستوى المحلي يمكن أن تؤدي إلى تحسين الأمن داخل المجتمعات المحلية في وقت تكون فيه الحكومة على المستوى الوطني ضعيفة ومجزأة. إزاء هذا، يثار التساؤل عما إذا كانت هذه الممارسات فرصة لإعادة التفكير في المساءلة والشرطة المجتمعية. على سبيل المثال، فإن حقيقة أن اليمنيين يدفعون الآن للحصول على خدمات أمنية، بينما يقوم المجتمع المدني بتمويل مشاريع الشرطة، وهناك جهات فاعلة متعددة تتنافس على توفير نفس الخدمات الأمنية التي توفرها الشرطة،24 فإن هذا يوفر فرصة كانت غير حاضرة في اليمن وهي: المشاركة المجتمعية المباشرة مع القطاع الأمني. تسمح هذه الفرصة لليمنيين لمطالبة الشرطة بالمزيد من المساءلة؛ وذلك لأن الشرطة تعتمد الآن على المجتمع من أجل البقاء. وبالتالي فإن المساءلة قد تعود بالنفع المتبادل. ولكن بعض الخبراء يعتقدون أن الممارسات الحالية للشراكات بين القطاعين العام والخاص قد تؤدي إلى تعدد الولاءات، حيث يتوقع المدنيون وغيرهم من المتبرعين بسخاء أن يسدد لهم القطاع العام الدين في المستقبل. ويمكن أن تكون الحالة الراهنة نقطة انطلاق بشأن العلاقات بين الدولة والمجتمع المحلي والملكية المجتمعية.

وبالنظر إلى كل هذا، ينبغي أن تصبح عملية تعبئة الموارد أكثر شفافية وأكثر منهجية وأكثر عدلاً وأن تمنع في الوقت نفسه الممارسات التي تضر في نهاية المطاف بالمجتمع. فبينما تستطيع الشركات والحكومة أن تتحكم في مواردها، فإن المجتمع الذي عصفت به الحرب لا يستطيع أن يفعل ذلك. كما ينبغي ألا تتحول الشرطة إلى مؤسسة لا تخدم إلا ميسوري الحال، في حين أن أولئك الذين لا يستطيعون دفع تكاليف خدمات الشرطة يتم تركهم دون أن يحصلوا على الأمن ولا العدالة. ويمكن حل هذه المعضلة بتوحيد أسعار الخدمات الأمنية التي يتلقاها الجمهور، كما حدث بالفعل في قطاع الكهرباء في تعز.25 إذ أعلنت السلطة المحلية في هذا الصدد تعرفة موحدة لشركات الكهرباء العامة والخاصة على حد سواء استناداً إلى حساب تكلفة تقديم الخدمة، مما أدى في نهاية المطاف إلى اعتبار الرسوم الإضافية من قبل القطاع الخاص غير قانونية أو فاسدة. ويمكن أن يساعد توحيد الأسعار مقترناً مع إنشاء صندوق يهدف إلى تمويل غير القادرين على دفع تكاليف الخدمات الأمنية على إيجاد فرص متساوية للحصول على الخدمات. وفي الوقت نفسه، هناك خط رفيع يفصل بين تسليع الخدمات العامة التي تسهل استمرار خدمات الشرطة وبين الممارسات الفاسدة التي قد تضر بالسلامة العامة. وبالتالي، فإن أي جهود ترمي إلى إضفاء الطابع المؤسسي على استراتيجيات البقاء هذه يجب أن تكفل الحد الأدنى من التدابير التي قد تعرض الجمهور للخطر، مع تعزيز التدابير التي تزيد الأمن.


انضم محمد الأرياني إلى المركز اليمني للسياسات كزميل باحث في عام 2020. وقد عمل كمستشار بحثي في موضوعات مثل الأمن والتنمية الاقتصادية وتقلد مناصب توجيهية واستشارية مختلفة في الإدارة التنظيمية والعلاقات العامة والتسويق. في عام 2013، شارك في تأسيس محطة طيرمانة FM، وهي أول محطة إذاعية مستقلة مملوكة للقطاع الخاص في اليمن.

المانح:
وزارة خارجية ألمانيا الاتحادية
التحرير:
مرايكا ترانسفيلد
محررو النسخة: جاتيندر بادا
الترجمة:
فاطمة صالح (العربية)
الصورة:
تعز ، اليمن. 22 يناير 2019: قذيفة هاون أطلقتها جماعة الحوثي على الطريق الزراعي وسط مدينة تعز ، ما أسفر عن مقتل امرأة وإصابة 11 آخرين ودمرت سيارة. تصوير: أنس الحاج.

REFERENCES:
  1. مسح تمثيلي للمركز اليمني لقياس الرأي العام (أبريل-يوليو2019)[]
  2. مرايكا ترانسفيلد، محمد الارياني، رشا عبدالكافي وكمال مقبل. “كاليدوسكوب: مؤسسة الشرطة: الأمن أثناء الصراع” المركز اليمني للسياسات، ديسمبر 22، 2021 https://www.yemenpolicy.org/policing-in-a-fragmented-state/[]
  3. مسح تمثيلي للمركز اليمني لقياس الرأي العام (أبريل-يوليو2019)[]
  4. تستند هذه الورقة على البحوث النوعية الميدانية التي أجريت في الفترة من يوليو إلى أغسطس 2021 في تعز. واستخدمت الدراسة عينات هادفة أجريت من خلالها مقابلات منظمة مع ثمانية من رؤساء الشرطة المحلية، أعقبها منتدى للمتابعة يضم ستة مشاركين، بمن فيهم رؤساء شرطة وخبراء في الأمن وخبراء افي لقانون وحقوق الإنسان. وتتراوح خلفية المشاركين من الخبرة المستندة إلى البحوث إلى المشاركة الميدانية مع قطاع الشرطة في تعز.[]
  5. سيث د. كابلان “إعادة التفكير في بناء الدولة: إصلاح الدول الهشة”، الوسيط، أكتوبر 2009. https://www.thebrokeronline.eu/rethinking-state-building-d25/[]
  6. سلطان، ماجد، مرايكا ترانسفيلد وكمال مقبل، “إضفاء الطابع الرسمي على غير الرسمي. مزودو الأمن الحكوميون وغير الحكوميين في مدينة تعز الواقعة تحت سيطرة الحكومة “، المركز اليمني لقياس الرأي العام، يوليو2019. – https://www.yemenpolicy.org/wp-content/uploads/2019/07/ICSP_EU_FinalTaizReport2019July19.pdf[]
  7. مرايكا ترانسفيلد، حكيم نعمان، كمال مقبل، وشيماء بن عثمان، تقييم مؤسسات سيادة القانون: الشرطة، أول المستجيبين، الادعاء العام والمحاكم في عدن، تعز، لحج وشبوة (صنعاء: المركز اليمني لقياس الرأي العام، 2020) ، 42-44[]
  8. مقابلات أجراها المركز اليمني لقياس الرأي العام مع رؤساء شرطة مديريات وعُزل في تعز، 1 يوليو-15 أغسطس 2021[]
  9. قانون السلطة المحلية في اليمن، https://constitutionnet.org/vl/item/yemen-law-concerning-local-authority-august-2000 , 44-47[]
  10. وزارة المالية، “تقديرات موازنة السلطة المركزية للسنة المالية 2019″، الجمهورية اليمنية: وزارة المالية  https://mof-yemen.net/2019/budget/data/c/44.pdf[]
  11. منتدى للمتابعة عُقد بالاشتراك مع المركز اليمني لقياس الرأي العام وضم خبراء في الأمن والقانون وحقوق الإنسان، 4نوفمبر 2021.[]
  12. بايلس، وكيسلر،”هل يمكن لخصخصة وتسويق الخدمات العامة المساعدة في تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية؟” برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2006. https://www.undp.org/publications/can-privatization-and-commercialisation-public-services-help-achieve-mdgs[]
  13. ناصر السقاف، “الخصخصة عن طريق الحرب: الفقراء يدفعون أكثر مقابل خدمات اليمن المتعطشة للمال”، ميدل إيست آي، 8 يناير2018. https://www.middleeasteye.net/news/privatisation-war-poor-pay-more-yemens-cash-starved-services[]
  14. مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية “بعيداً عن استراتيجية العمل كالمعتاد: مكافحة الفساد في اليمن” نوفمبر 2018 https://carpobonn.org/wpcontent/uploads/2020/01/ Rethinking_Yemens_Economy_white_paper_4.pdf[]
  15. المساء برس، “متابعة خاصة:” جهاز الأمن التابع للإصلاح في تعز يؤجر سيارات الشرطة للتجار لنقل البضائع “، المساء برس 23 أغسطس 2021. https://rb.gy/nyi1hh[]
  16. المشهد اليمني، “بعد فوضى قضية عائلة البرج.. فضح فساد إحدى دوائر أمن المديرية في تعز مع قضايا أخرى”، 19 أغسطس 2021 https://www.almashhad-alyemeni.com/212225[]
  17. آدم بارون وريمان الهمداني، ” منظور “الحرب بالوكالة” على اليمن، وجهة نظر من تعز” نيو أميركا، ديسمبر 2019 https://www.newamerica.org/international-security/reports/the-proxy-war-prism-on-yemen/political-groups-in-taiz/[]
  18. سلطان، ماجد، مرايكا ترانسفيلد وكمال مقبل، “إضفاء الطابع الرسمي على غير الرسمي. مزودو الأمن الحكوميون وغير الحكوميين في مدينة تعز الواقعة تحت سيطرة الحكومة “، المركز اليمني لقياس الرأي العام، يوليو2019. https://www.yemenpolicy.org/wp-content/uploads/2019/07/ICSP_EU_FinalTaizReport2019July19.pdf[]
  19. مرايكا ترانسفيلد، حكيم نعمان، كمال مقبل، وشيماء بن عثمان، تقييم مؤسسات سيادة القانون: الشرطة، أول المستجيبين، الادعاء العام والمحاكم في عدن، تعز، لحج وشبوة (صنعاء: المركز اليمني لقياس الرأي العام ، 2020) ، 42-44[]
  20. تعز اليوم، “فرض مبالغ بالدولار على تجار تعز لتركيب كاميرات مراقبة”، نوفمبر 30، 2021. https://bit.ly/3FpLslb[]
  21. مرايكا ترانسفيلد، محمد الارياني، رشا عبدالكافي وكمال مقبل. “كاليدوسكوب: مؤسسة الشرطة: الأمن أثناء الصراع” المركز اليمني للسياسات، ديسمبر 22، 2021 https://www.yemenpolicy.org/policing-in-a-fragmented-state/[]
  22. هانا ليوناردسون وجوستاف رود “المنعطف المحلي” في بناء السلام: مراجعة أدبية لبناء السلام المحلي الفعال والتحرر “، 2015. فصلية العالم الثالث[]
  23. توماس دونايس ، “سيادة القانون، والمنعطف المحلي، وإعادة التفكير في المساءلة في عمليات إصلاح قطاع الأمن” ، 26 مايو 2020. https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/21647259.2021.1895622[]
  24. مراسل ميدل إيست آي، “تعز تنحدر إلى حروب النفوذ مع اشتباك المتمردين على السلطة والمال”، 23 يونيو 2016. https://www.middleeasteye.net/news/taiz-descends-turf-wars-rebels-clash-over-power-and-money[]
  25. يمن شباب، “محافظ تعز يوجه بمراجعة أسعار الكهرباء وإلغاء الاشتراكات الشهرية” 3 يناير 2022. http://yemenshabab.net/locales/72632[]
النشرة البريدية للمركز اليمني للسياسات
تابعنا على شبكات التواصل الإجتماعي
×