شيماء بن عثمان

جيلٌ بلا هوية وطنية مشتركة


مارس 2023

يتجلَّى تشرذم الدولة الآن في التجمعات المدرسية، حيث تقوم المدارس بتعزيز هويات سياسية جديدة ومتباينة، بدلًا من تنمية هوية وطنية مشتركة.  تقول شيماء بن عثمان إن هذه الهويات الجديدة التي تُروَّج في المدارس بدلًا من الطقوس التي تتضمن نشيدًا وطنيًّا وعلمًا مشتركًا، ستؤدي إلى تكوين جيلٍ مشتتٍ من دون هوية وطنية، مما يطيل أمد النزاعات، ويؤدي إلى مزيدٍ من الانقسام، وتستعرض هنا هذه الطقوس المتغيرة وآثارها على المجتمع في صنعاء وعدن وحضرموت.

كان تسييس التعليم في اليمن مشكلة فعلية قبل اندلاع النزاع الحالي، إذ سيطرت رواية الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح على مناهج التعليم التي عُدِّلت لتتناسب مع وجهة نظره حول الوحدة اليمنية، وبالتالي تجاهل مظالم جنوب اليمن. ومع تفكك الدولة وخضوع نظام التعليم لسيطرة أطراف النزاع المختلفة خلال السنوات الماضية، غدت التجمعات المدرسية -بوصفها جزء من البروتوكولات والإجراءات الأوسع للمدرسة-  أدوات قوية تُستخدم لتشكيل شعور الطلاب بالهوية. وتمثِّل هذه التجمعات -باعتبارها نموذجًا مصغرًا للمجتمع الأكبر الموجود خارج المدارس- أساسًا لبناء المجتمع. وفي أثناء التجمعات المدرسية، يشارك الطلاب في الطقوس ويستمعون إلى التعليمات المختلفة، كتلك التي تتعلق بالأخلاق مثلا، التي تشكِّل هوياتهم وطبيعة شعورهم بالانتماء. ومن خلال انطوائها على بعض الممارسات الشعائرية: مثل رفع العلم الوطني وتحيته وأداء النشيد الوطني، فإن التجمعات المدرسية الصباحية تنقل إلى الطلاب أفكارًا قوية حول معنى الوطنية.

في عهد صالح كان الطلاب يفتتحون صباحهم بأداء النشيد الوطني ورفع علم الجمهورية اليمنية، أما اليوم، مع انتشار الجماعات السياسية المختلفة وتوغل سيطرتها، فإن المرء يلاحظ أن الطلاب اليمنيين  لم يعودوا يشكلون هوية وطنية واحدة. وسواء كان ذلك بسبب الإكراه السياسي أو الانقسام المجتمعي، فإن الطلاب خلال التجمعات المدرسية الصباحية يقدمون شهادة واقعية على مظاهر التشرذم المتزايد الذي تحركه الفصائل السياسية المتصارعة. وقد أصبحت طبيعة التنشئة الاجتماعية في منطقة من مناطق اليمن تعتمد على ما يفرضه الطرف المهيمن في المنطقة التي تقع فيها تلك المدارس التي ينتسبون إليها. وتنظر كل قوة سياسية من تلك القوى إلى فرصة تشكيل هوية الطلاب باعتبارها وسيلة لاكتساب السلطة السياسية وترسيخها في المستقبل.

ترسيخ الدولة الزيدية لأيديولوجيتها الوطنية من خلال التعديل في النظام التعليمي

في عام 2021، مع دخول حرب اليمن عامها السابع، أجرى الحوثيون (المعروفون أيضًا باسم أنصار الله) تغييرات كبيرة على المناهج الدراسية في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم، وتهدف إصلاحاتهم التعليمية إلى بناء هوية وطنية تتماشى مع رؤيتهم للدولة اليمنية. على سبيل المثال، ألغى الحوثيون دروسًا تحتفي بثورة 26 سبتمبر، التي أطاحت بحكم الإمامة وأطلقت الحقبة الجمهورية في اليمن عام 1962. وتستند الإمامة المتوكلية إلى العقيدة الزيدية التي تنص على أن السلطة السياسية لا يمكن أن يسيطر عليها إلا السادة، وهم مجموعة من العائلات التي تعتبر داخل المجتمع اليمني من نسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وظهرت حركة الحوثي في التسعينيات ليس فقط للدفاع عن التقاليد الدينية للزيدية، ولكن أيضًا بمجرد وصولهم إلى السلطة في صنعاء، عملوا على إعادة نظام كان يضفي الشرعية على سلطتهم السياسية قبل الثورة الجمهورية.

كما أدخلت التعديلات التعليمية للحوثيين داخل الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم ترديدًا إلزاميًّا للصرخة خلال التجمعات المدرسية الصباحية. يبدأ الطلاب صباحهم الآن بالهتاف: «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام». نشأ هذا الهتاف من الخطاب الإيراني المعادي للغرب، وقد تبنَّاه الحوثيون في بدايات العقد الماضي. ومع ذلك، توجد بعض المقاومة حيث أظهرت التقارير الإخبارية أن العديد من الطلاب قد تعرضوا للتأديب وطُرِدوا من الصفوف لرفضهم ترديد الهتاف. يهدف الحوثيون في نهاية المطاف إلى استغلال نظام التعليم ليس من أجل حشد وتجنيد الآلاف من اليمنيين من أجل قضيتهم فحسب، بل أيضًا من أجل ضمان السيطرة على الأجيال القادمة من خلال استبدال أيديولوجيتهم وأهدافهم الطائفية بالهوية الوطنية والمبادئ اليمنية. وللتدليل على السيطرة أيضًا، عمد الحوثيون إلى تغيير أسماء المدارس اليمنية، على سبيل المثال، تُعرَف مدرسة بابل الآن باسم «مدرسة 21 سبتمبر»، وهو اليوم الذي استولى فيه الحوثيون على صنعاء عام 2014، والأهم من ذلك أنهم حوَّلوا أيضًا العديدَ من المؤسسات التعليمية إلى سجون ومنشآت تدريب للأطفال الجنود.

تضمن الهوية الوطنية التي يتم ترسيخها في التجمعات المدرسية ونظام التعليم بشكلٍ عامٍّ أن جيلًا جديدًا من الجنود يُربَّى للقتال في حربٍ طائفية على أساس تصور الحوثيين للتفوق الديني. ومن خلال تأطير الهوية بمصطلحات دينية، فإن هذا يصنِّف أيضًا جميع المعارضين للحوثيين على أنهم معارضون دينيون وليسوا معارضين سياسيين، وتعد هذه هوية وطنية إقصائية بطبيعتها، حيث يُستعدى أولئك اليمنيون الذين لا يتبعون الحوثيين، مما يعزز التشرذم الحالي لعقودٍ قادمة.

تمسك القومية الجنوبية في عدن بالماضي

في العاصمة المؤقتة عدن، المليئة بالهويات المتضاربة، شهدت التجمعات المدرسية أيضًا بعض التحولات. لم يعمد المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي أسَّسه أعضاء من الحراك الجنوبي سعيًا لإعادة الدولة الجنوبية المستقلة، إلى تغيير مناهج المدارس في مناطق سيطرته، ولا يزال الطلاب في عدن يدرسون تاريخ اليمن الذي قررته سابقًا سلطات شمال اليمن، لبناء هوية وطنية ليمن موحد. في مايو 1990، اتحدت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية -وهما دولتان مختلفتان تمامًا لهما رؤى مختلفة لليمن- لتشكيل الجمهورية اليمنية. لكن في صيف 1994 اندلعت حرب أهلية بين الشمال والجنوب انتهت بهزيمة القوات الجنوبية ودخول قوات الشمال إلى عدن، وبينما اعتبر الكثير من الجنوبيين هذا احتلالًا، اعتبرته الحكومة في صنعاء تعزيزًا للوحدة.

أعلن مسؤولو المجلس الانتقالي الجنوبي أن المناهج المدرسية قيد المراجعة حاليًّا، مع توقع حدوث تغييرات: ستحدد المراجعة الدروس «الدخيلة والكاذبة والمبرمجة لإضفاء طابع اليمن الموحد على الجنوب، ليُستبدَل بها دروسٌ تحمل هوية الجنوب وطابعه وتاريخه ». ومع ذلك، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي يروج بالفعل لأهدافه السياسية من خلال عقد محاضرات توعوية وأحداث مدرسية منتظمة  تتضمن رفضا لرموز الوحدة. فعلى سبيل المثال، حظر المجلس الانتقالي الجنوبي العلم والنشيد الوطني اليمني خلال التجمعات المدرسية الصباحية، وبدلًا من ذلك يُستخدم نشيد وعلم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة في ممارسة الطقوس. وعلى الرغم من دعم شريحة كبيرة من السكان لهذا القرار في الجنوب، فإن بعض المشاحنات وقعت بعد أن رفض مدير مدرسة رفع العلم الجنوبي، مما أثار غضبًا واسع النطاق بين النشطاء الموالين للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذين طالبوا بمحاسبة المدير.

وقد خلقت سنواتٌ طويلة من تجاهل أصوات الجنوبيين وعدم حل المظالم التاريخية عداوة ضد الشمال وميلًا إلى رفض أي عملٍ يربط الجنوب بيمن موحد، وينطبق هذا خصوصًا على التعليم، الذي كان قبل الوحدة اليمنية فاعلًا ومتطورًا في ظل الحكم الاشتراكي في جنوب اليمن، لكنه تدهور إلى حدٍّ كبيرٍ بعد توحيد اليمن. وعلى الرغم من أن اليمن لا يزال بحكم القانون دولة موحدة، فإن الطلاب في عدن ينشؤون ولديهم إيمان قوي باستقلال الجنوب، ورؤية شمال اليمن كدولة محتلة. ويشير تغيير العلم اليمني والنشيد الوطني، اللذين يرمزان إلى الهوية اليمنية الموحدة، إلى ظهور نزعة قومية جنوبية جديدة، مع الإيمان بالشمال كمحتلٍّ وعدوٍ مع السعي لترسيخ هذه الأفكار ونقلها لأجيالٍ قادمة.

في حضرموت، حتى «الحياد» له مخاطره

على عكس عدن وصنعاء، اللتين هيمنت عليهما جهات سياسية منفردة، توجد في حضرموت مجموعات وفصائل سياسية مختلفة، ويتضمن ذلك مؤيدي الوحدة اليمنية، وأنصار دولة الجنوب، إلى جانب أصوات تطالب بدولة مستقلة لحضرموت. ويعتقد العديد من الحضرميين أن منطقتهم تعرَّضت للإهمال من قبل الدولة الاشتراكية السابقة التي ركزت على عدن، ولاحقًا بعد التوحيد والحكم المركزي من صنعاء. كما يعتبرون أنفسهم مهمَّشين؛ لأن حضرموت أكبر وأغنى محافظة في اليمن، لها هوية فريدة انبثقت من تقاطع الهوية الحضرمية القديمة داخل اليمن والشتات الحضرمي منذ قرون، كما يعتبرون أنها مهمشة سياسيًّا واقتصاديًّا.

أفاد مدير مدرسة في مدينة المكلا الساحلية بوقوع أعمال شغبٍ عندما عمد طلابٌ ذكور-رفضوا رفع العلم اليمني- إلى اقتحام مدرسة للبنات في المكلا، وطالبوا برفع العلم الجنوبي بدلًا من ذلك. وأضاف المدير أن الحل الأكثر أمانًا للطلاب هو البقاء على الحياد وإلغاء النشيد الوطني ورفع العلم في ظل «عدم اليقين السياسي»، ومن ثَمَّ، وتحسبًا للعنف المحتمل بين مختلف الفصائل السياسية، اختارت جميع المدارس في حضرموت اتخاذ هذا الموقف المحايد من خلال إقامة تجمعات صباحية لا يُروج فيها الهوية الوطنية، وبدلًا من ذلك اقتصرت على تلاوة آيات من القرآن، إلى جانب نصائح وحكم عامة للطلاب.

وبينما اختارت السلطة المحلية في حضرموت الحياد في التجمعات المدرسية، يعاني الطلاب تشرذمَ الدولة والمنافسة بين الجماعات السياسية في الشوارع، إذ تتنافس في الأماكن العامة أعلام الجمهورية اليمنية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وعلم حضرموت المستقلة، وكذلك أعلام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وانعكاسًا لهذا الاستقطاب، احتفل بعض طلاب المدارس في 26 سبتمبر 2022 بثورة 26 سبتمبر في شوارع المكلا، العيد الوطني لإحياء ذكرى ميلاد الجمهورية اليمنية في صنعاء، وخلال ذلك، رفعوا العلم الرسمي لليمن، واشتبكوا مع مجموعة أخرى من الطلاب الذين رفعوا العلم الجنوبي، ومما زاد الأمر تعقيدًا أن نشطاء حضرميين نشروا على مواقع التواصل الاجتماعي أن السلطات، التي ترفع هي نفسها علم الجمهورية اليمنية، اعتقلت الأطفال الذين كانوا يحملون نفس العلم.

بدلًا من ممارسة الحياد الشامل الذي يسمح لأطفال المدارس بالتغلب على الانقسام والكراهية، خلقت المدارس الحضرمية ببساطة فراغًا. إن نوع الحياد الذي يُمارس في المدارس الحضرمية اليوم يخفي فقط وجود مقاربة معتمدة رسميًّا للانتماء والهوية الوطنية، ومع ذلك، تُظهر الشوارع مستوى من التشرذم لا يمكن لهذا الحياد أن يحجبه. وبالتالي، فإن النهج الذي تتبعه المدارس لا يحمي الأطفال من التعرض للتشكيل من خلال المعتقدات القومية المتنافسة والحصرية والعنيفة في بعض الأحيان.

يتطلب السلام أيضًا العدالة والمصالحة في مدارس اليمن

تعمل الجماعات المتنافسة التي تتلاعب بالأجندات المدرسية بهذه الطريقة على زرع جيلٍ جديدٍ يعاني من الصراعات، إذ إن الطلاب الذين نشأوا في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون يرون «السنة» بوصفهم أعداء لهم، ويعتقدون أن قادة الحوثيين هم ممثِّلو الرب، بينما يرى الجنوبيون الشماليين بوصفهم محتلين وأعداء بسبب هذه الانقسامات والاختلافات. وحتى لو تم تحرير الجنوب من «الاحتلال»، فمن المرجح أن تستمر العداوات والكراهية لأن جيل الشباب في عدن والجنوب يكبر معتقدًا أن الشماليين أعداء. ونظرًا إلى الانقسامات بين طلاب حضرموت وغياب هوية موحدة، يمكن لأي مجموعة استقطابهم بسهولة، وستتحمل هذه الأجيال تلك المشاعر من المظلومية والكراهية ويوجهها بعضهم باتجاه البعض الآخر عندما يكبرون. وحتى إذا عُثر على حل سياسي لليمن في المستقبل القريب، فإن احتمال استمرار النزاع مرتفعٌ بسبب الهويات المنقسمة التي أطلقتها الحرب واستغلتها.

إن هذه الخلافات المتعلقة بالتجمعات المدرسية تفرض علينا إعادة النظر في طريقة تفكيرنا حول السلام في اليمن بل تغييرها بنهج جديد من التفكير. وعلى الرغم من أن آليات السلام والعدالة الدولية الحالية تدعو إلى وقف العنف كاتفاقٍ أولي، فإن العدالة والمصالحة مطلوبان من أجل سلامٍ طويل الأمد. وتعد إعادة التفكير في الهويات والتنوع الثقافي كمميزات، بدلًا من عقبات أمام حل النزاعات، نقطة جيدة للبدء في تحقيق سلام دائم في اليمن. كما يجب النظر إلى النزاع في اليمن على نحوٍ يتسم بالشمولية، بحيث تتضمن رؤانا حول السلام  سرديات فترة ما قبل الحرب التي أصبحت تشكِّل هويات اليوم. إن الصراعات الحالية ناتجة عن مظالم الماضي التي يجب معالجتها قبل أن تزداد الأجيال القادمة تباعدًا وتنافرًا.

شيماء بن عثمان زميلة مشاركة في المركز اليمني للسياسات. وبصفتها شريكًا مؤسسًا لنادي تكوين الثقافي ومبادرة ميمز للفنون، فهي ناشطة اجتماعية ومتطوعة تركز على الفنون كوسيلة للتغيير الاجتماعي. وهي أيضًا كاتبة مستقلة، نشرت العديد من المقالات في مجلة المدنية. يركز بحثها على النساء والشباب، وبالإضافة إلى ذلك، فهي باحثة في برنامج قادة الغد في مبادرة الشراكة الشرق أوسطية، وحصلت مؤخرًا على درجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من الجامعة الأمريكية في بيروت.

المانح:
وزارة خارجية ألمانيا الاتحادية
التحرير:
كارول مالك وجاتندر بادا
الترجمة:
إيناس التركي
الصورة:
أحمد الهجري

النشرة البريدية للمركز اليمني للسياسات
تابعنا على شبكات التواصل الإجتماعي
×