يسكن المناطق الريفية في اليمن ما يقارب من 70 في المائة من سكان البلاد، وتعمل نصف القوى العاملة في البلاد في القطاع الزراعي، بينما يعتمد 70 في المائة من سكان اليمن على الدخل الناتج عن الأنشطة الزراعية.
على الرغم من ذلك، لم يقم القطاع الزراعي لفترة طويلة بتوفير غذاء كافٍ لسكان البلاد، مما أدى إلى استيراد اليمن 90 في المائة من احتياجاته الغذائية، ويكمن تفسير ذلك في حقيقة أن القطاع لا يحظى بالكثير من الاهتمام من قبل السلطات، حيث تلقى حصة متناقصة من الإنفاق العام. وتمتد جذور العديد من القضايا الخاصة بهذا القطاع منذ السبعينيات، عندما قام شمال اليمن، الغني بالأراضي الزراعية، بتصدير الكثير من قوته العاملة من أجل العيش على التحويلات المالية الضخمة. الأمر الذي أدى إلى إهمال الأراضي الزراعية الحيوية، وإلى تفاقم ركود الصناعة الزراعية بفعل فشل السياسات، والصراع، واكتشاف النفط، وبرامج التكيف الهيكلي المفروضة من الخارج. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت قضية أخرى في شكل القضية -البيئية الأكثر خطورة في اليمن – ندرة المياه.
ومع ذلك، يمكن تعلم دروس من السبعينيات، كما يقول أيمن الإرياني، إذا استثمرت المؤسسات الحكومية في البنية التحتية الزراعية وإدارة موارد المياه بشكل أفضل، فإنه من الممكن للقطاع أن يتعافى. لكن هذا يأتي مع التحذير بأنه، في نهاية المطاف، لن تكون أي سياسة واحدة فعالة مثل إيجاد حلٍ مستدّام للصراع الحالي.
إن المجاعة والانهيار الاقتصادي في اليمن يؤكدان على أهمية وجود قطاع زراعي قوي. ولتجنب تكرار الوضع الراهن في المستقبل، يجب أن تشمل أي خطة لتنمية اليمن الاستثمار في مزارعيها وفي الهياكل الأساسية الضرورية لتسويق الإنتاج. واليمن يمتلك بالفعل الموارد البشرية الهائلة، وهذا يحتاج إلى توظيف أفضل بكثير.
يمكن لصناع سياسات اليوم التعلم من المشكلات التي واجهها القطاع الزراعي في البلاد في السبعينيات. إذ كانت هناك -خلال تلك الفترة- تغييرات جذرية في ديناميكيات الاقتصاد اليمني. وقد أدى التدفق الهائل للعمالة إلى البلدان المجاورة المنتجة للنفط إلى انفجار في التحويلات المالية وخلق دولة تمتلك وفرة في رأس المال بشكل غير اعتيادي ولكنها تعاني من نقص في الأيدي العاملة. بدلاً من استخدام رأس المال هذا لتنويع الاقتصاد وتعزيز القطاع الزراعي، اتبعت الجمهورية العربية اليمنية نهج عدم التدخل، مما سمح للواردات الرخيصة بالتدفق وأدى إلى اتساع أعمال العمران، كل ذلك على حساب الأراضي الزراعية الموجودة في البلد. كان ذلك العقد المزدهر فرصة ضائعة، كانت لها أن تحول اليمن إلى قوة زراعية في المنطقة. وبالرغم من ذلك، فإنه يقدم أيضًا بعض الدروس الإرشادية لصانعي سياسات اليوم.
الاعتماد على التحويلات والاستيراد
كانت اليمن تاريخياً مورداً رئيسياً للعمالة لدول الخليج العربي، لكن الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي حولت هذا التدفق إلى سيل، حيث قام العمال اليمنيون بإغراق أسواق العمل المحرومة عند جيرانهم. وكانت النتيجة زيادة هائلة في أموال التحويلات.
فقد بلغت التحويلات الخاصة ذروتها عند 1.39 مليار دولار أمريكي في عام 1977، لتشكل 77 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحسب الجهاز المركزي للتخطيط. وكانت هناك إيجابيات لذلك: إذ ارتفعت معدلات التعليم، على سبيل المثال، إلى جانب مؤشرات متعددة لكل من الصحة والثروة، ومع ذلك، فقد كان لها أيضًا نتيجة غير مقصودة تتمثل في تركيز الاقتصاد بعيدًا عن الزراعة وخلق اعتماد مزمن وحاد على الواردات – وكلاهما مستمر حتى يومنا هذا. وكان ارتفاع التحويلات المالية يعني أن اليمنيين كان لديهم المزيد من رأس المال، ولكن مع عدم وجود العديد من السبل للاستثمار المحلي في اقتصاد البلاد غير المتنوع، ولم يكن بمقدورهم إنفاق هذا المال إلا بواحدة من ثلاث طرق: شراء الأرض، أو بناء منزل، أو فتح تجارة تجزئة صغيرة.
ركود الإنتاجية الزراعية
كانت النتيجة نموًا سريعًا في العمران، خاصة في المناطق الحضرية، مما أدى إلى زيادة الأسعار والأجور في القطاع. وقد أدى ذلك إلى جعل العمل في القطاع الزراعي – حيث كانت الأجور والأسعار تقاسي بالفعل بسبب وفرة الواردات الرخيصة – غير مغرٍ بشكل أكبر.
وبدأت حلقة مفرغة مع انخفاض الإنتاج الزراعي وزيادة الاعتماد على الواردات. فأولئك الذين مازالوا يستثمرون في الأراضي الزراعية أصبحوا يركزون على المحاصيل الكمالية مثل القات، والتي تحقق ربحًا أكبر، على حساب محاصيل أخرى أكثر استدامة بيئيًا ومفيدة، مثل القطن والذرة الرفيعة (نوع من الحبوب) والقهوة. وأصبح الاستثمار الزراعي غير مغرٍ، ما لم يكن لدى شخص ما الوسائل اللازمة لتوفير البنية التحتية اللازمة وزرع شجرة القات الأكثر ربحًا.
والأرقام تتحدث عن نفسها، فمنذ عام 1975 إلى 1980 تضاعفت قيمة الواردات قرابة ثلاثة أضعاف من 3 مليارات ريال إلى 8.35 مليار ريال. بينما انخفض الإنتاج الزراعي المحلي بشكل مطرّد. القطن، على سبيل المثال، كان في يوم من الأيام مزدهرًا حيث وصل الإنتاج إلى أكثر من 25000 ألف طن، لكنه انخفض بشكل حاد منذ عام 1974 مع انخفاض القوى العاملة.
وفضل المزارعون زراعة القات باعتبار أن القطن يستهلك نفس القدر من المياه التي يستهلكها القات. كما أن إنتاج البن الذي كان ينبغي أن ينمو، إلى جانب العديد من المحاصيل الأخرى، سيتراجع في نهاية المطاف إما بسبب القات أو الركود.
أسعار الأراضي والعوامل البيئية
أدى ارتفاع أسعار الأراضي الذي غذته طفرة العمران وصعوبة استخدام الآلات في الأراضي الزراعية ذات المدرجات في وسط وشمال اليمن إلى وجود حافز ضئيل للغاية للاستثمار الحكومي أو الخاص في قطاع الزراعة.
ولعبت الأعراف القانونية والاجتماعية أيضًا عاملاً: فالخلافات حول الموارد المائية جعلت الزراعة معقدة ومكلفة، بينما كانت الأعراف الاجتماعية تثنيّ العائلات عن بيع الأراضي للغرباء، حتى الأقارب البعيدين.
اكتشاف النفط والإصلاح الاقتصادي
بحلول منتصف الثمانينيات، كان مدى الاعتماد على الواردات واضحًا، مما دفع شمال وجنوب اليمن إلى إدخال سياسات لمحاولة معالجة الوضع. وقد كان لهذه السياسات بعض التأثير، مع انخفاض في الواردات في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، لكن هذه السياسات اعتبرت غير ذات أهمية بسبب أحداث أخرى. فقد اكتشف اليمن النفط في نفس الوقت الذي حدث فيه انكماش كبير في عائدات النفط خلال الثمانينيات. وشكل النفط غالبية إنتاج منطقة الخليج. وعندما انخفضت أسعار النفط انخفضت الحاجة إلى العمال، وتم طرد نحو المليوني عامل عربي من دول الخليج المختلفة والذين يقدر نصفهم من اليمنيين. وكان هذا جزئياً بسبب تصويت اليمن كعضو غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد استخدام القوة في العراق خلال حرب الخليج 1990-1991. وقد كان ذلك قراراً لم يحظ بالشعبية بين جيرانها وأدى أيضًا إلى وقف المساعدات الخارجية لجمهورية اليمن الموحدة حديثًا. واندلعت حرب أهلية في عام 1994، مما أدى إلى زيادة البطالة والتضخم واتساع عجز الموازنة. ونتيجة لذلك، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 686 دولارًا في عام 1990 إلى 281 دولارًا في عام 1996.
في عام 1995، وكشرطٍ للحصول على قروض ضرورية، أجبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الحكومة اليمنية على تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي ومالي وإداري بهدف تقليص عجز الموازنة والتضخم واستقرار سعر الصرف.
حظيّ الإصلاح ببعض النجاح. ومع ذلك، كما هو الحال مع العديد من برامج التكيف الهيكلي المفروضة من الخارج في ذلك الوقت، جاءت هذه الإنجازات على حساب انخفاض كبير في الإنفاق الحكومي وزيادة هائلة في الفقر.
ومن غير المستغرب، أنه لم تتم معالجة ركود القطاع الزراعي وسط الفوضى، واستمر الاعتماد على الواردات بلا هوادة مع تزايد انعدام الأمن الغذائي.
الدروس المستفادة والتوصيات
إهمال الحكومات اليمنية المستمر للقطاع الزراعي هو موضوع مستمر منذ السبعينيات حتى الوقت الحاضر. مرةً تلو الأخرى، بينما تجد الحكومة مصدرًا سهلاً وغير مستدام للدخل، يُنحى المزارعون اليمنيون جانباً. وفي حين أن تشجيع النمو في هذا القطاع صعب ومعقد على حد سواء، فهو الخيار الأكثر استدامة، حيث يوفر النمو الاقتصادي وإمكانات التصدير وسبل العيش المستدامة لجزء كبير من القوى العاملة اليمنية.
من أجل المضي قدمًا، يجب أن يركز الاستثمار الحكومي على بناء البنية التحتية المؤسسية اللازمة لتسويق المنتجات الزراعية. ومن الممكن أن يتحقق هذا على شكل شركات عامة تشتري وتسوق وتوزع وتصدر المنتجات المحلية، فضلاً عن التحكم في الواردات. يمكن لمثل هذه الشركات أن تقدم مخططات لتثبيت الأسعار لحماية المزارعين من تقلب أسعار السلع الأساسية، ودعم الأسعار من جانب المستهلك لمواجهة انعدام الأمن الغذائي، وكذلك تقديم حوافز مالية لجعل العمل الزراعي أكثر جاذبية. وفي حين أن شركات التسويق في القطاع العام يمكن أن تكون غير فعالة ومفتوحة للفساد، إلا أنها الحل الأنسب لليمن، الذي يفتقر حاليًا إلى الشروط المطلوبة للشركات الخاصة.
تعد الإدارة الأفضل لموارد المياه أيضًا جزءًا أساسيًا من أي حزمة سياسات تهدف إلى تحسين الزراعة في اليمن. وتعد مشاركة الحكومة في هذا المجال أمرًا حيويًا، لأنه سيوفر طريقة لمنع استخدام الكثير من المياه في زراعة القات. وتشغل زراعة القات حاليًا أكثر من نصف الأراضي الزراعية في اليمن وهي مسؤولة عن استنزاف كبير للمياه في البلاد. وفي حين أن حظر نمو هذا النبات المنبه الصالح للأكل لن يحظى بشعبية كبيرة، فإن تشجيع استيراد القات من البلدان المجاورة قد يكون خيارًا. وهذا من شأنه أن يقلل الطلب على موارد المياه الشحيحة والتكلفة الباهظة للتنقيب عن المياه على المزارعين. إن تشجيع استيراد القات ليس مقترحًا جديداً في السياسة وقد تمت دراسته في الماضي، على الرغم من عدم تنفيذه مطلقًا.
في نفس الوقت، يجب على الحكومة أيضًا أن تشجع إعادة إدخال محاصيل أكثر ملاءمة للبيئة، مثل الذرة الرفيعة المقاومة للجفاف، والتي كانت محصولًا أساسيًا أكثر شيوعًا قبل إدخال القمح.
ولكن هناك، للأسف، محذور لكل هذا: إذ سيكون من المستحيل تنفيذ أي سياسات من هذا القبيل دون حلٍ دائم للصراع في البلاد. وتظل هذه القضية الأكبر بالنسبة لملايين اليمنيين. فوحده الحل المستدام وطويل الأجل للقتال سيمكن من إنشاء مؤسسات حكومية قوية وشفافة يمكنها العمل أخيرًا على إعادة قطاع الزراعة المتعثر للوقوف على قدميه بعد عقود عديدة من الإهمال.
أيمن الإرياني استشاري لدى المركز اليمني للسياسة، مهتم بالعمالة اليمنية في الخارج وتدفقات رأس المال وبتأثيرهما على الزراعة في اليمن.
إخلاء المسؤولية: الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال هي آراء الكتاب ولا تعكس بالضرورة آراء ووجهات نظر المركز اليمني
للسياسات أو الجهات المانحة له.