بعد إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن وقف دعم العمليات الهجومية للملكة العربية السعودية في اليمن، فإن التحدي الثاني الواقف في طريق السلام يتمثل في إيجاد إطار عمل يجعل تدخل دول الإقليم في اليمن بناء ويضمن أن هذا التدخل لن يسهم في خلق انقسامات أو توسيعها بصورة أكبر. في حين أن الحكومة المعترف بها دوليا تتلقى الدعم من المملكة العربية السعودية، فإن المجلس الانتقالي الجنوبي يلقى مساندة من دولة الإمارات العربية المتحدة. فكل من هاتين الدولتين الخليجيتين تمارس دورها في اليمن، بصورة منفصلة عن الأخرى، من خلال الحكومة المعترف بها دوليا ومن خلال المجلس الانتقالي الجنوبي، بالتوالي، وقد كان من شأن ذلك أنْ قوّض قدرة اليمن على أن تصل بصورة مستقلة إلى اتفاق سلام داخلي.
لقد كان من شأن تدخل الدول المجاورة لليمن في حربها الأهلية أن عقّد، على نحو بالغ الشدة، المفاوضات التي يُأمل منها التوصلُ إلى استقرار سياسي يتسم بالشمول والمتانة ويفضي إلى إنهاء القتال الذي لا يزال مستمرا. كانت دول مجلس التعاون الخليجي تعمل، في الغالب، ضمن جبهة متحدة مثلما حدث في عام 2015 عندما دعمت كتلة الدول الست بداية حملة الضربات الجوية في اليمن دفاعا عن الحكومة المعترف بها دوليا بعد أن فر أعضاؤها إلى المملكة السعودية. غير أنّ المعلوم تاريخيا أنَّ دول الخليج لا تصل إلى إجماعٍ بخصوص أهدافها عندما يتعلق الأمر بالسياسات تجاه اليمن. فبعد احتجاجات عام 2011 والاتفاق بشأن الحكومة الانتقالية، دأبت تلك الدول الجارة إلى التعامل مع المسألة اليمنية بصورة تتسم بالتباين الشاسع وفقا لخططها وأهدافها المختلفة. وهذا أسهم في التشظي السياسي في اليمن وفي الصراع الدامي الذي تشهده البلد اليوم. لقد انعكست الصدوع الموجودة في كتلة دول التعاون الخليجي على المشهد اليمني، ويدخل ضمن ذلك الصراع الذي عُزِلت بموجبه قطر عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من أنَّ المملكة السعودية ودولة الإمارات العربية قد عملتا معا بتقارب وثيق بخصوص قضايا إقليمية أخرى، كما هي الحال فيما يخص العراق، فإنّ نهج كلٍّ منهما قد تباين عن الآخر فيما يخص اليمن؛ إذ عملت السعودية على مساندة الحكومة المعترف بها دوليا في حين ظلت دولة الإمارات العربية تقدم الدعم للمجلس الانتقالي الجنوبي.
وفي هذا الصدد دخلت المملكة السعودية ودولة الإمارات في لعبة القط والفأر؛ ففي حين يريد السعوديون من الإماراتيين أن يضغطوا على المجلس الانتقالي الجنوبي حتى يميل نحو الاعتدال في مطالبه، فإن الإماراتيين يأملون أن يضغط السعوديون على الحكومة المعترف بها دوليا كي تقبل بتقاسم حقيقي للسلطة. وعلى الرغم من أن تدخل هاتين الدولتين قد وسع خطوط الصدع بين الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي، فإنّ من المرجح أن تلعب هاتان الدولتان الغنيتان دورا بارزا في عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع وذلك من خلال تقديم المساعدات وبرامج التنمية. ومن هنا، فعوضا عن إجبار الدول الخليجية على أنْ تسحب نفسها من كل مفاوضات السلام الخاصة باليمن، فإنه ينبغي عليها أن تعيد تأطير طبيعة تدخلها. وحتى تتوصل اليمن إلى حل موصل للسلام المستدام، فإنه لا بد من وضع وثيقة تفرض وتحدد شروط المشاركة الخارجية للدول. ويوقع على هذه الوثيقة جميع الأطراف المحلية والإقليمية. وكي يُضمن التزام الأطراف المعنية بهذه المبادئ، فلابد من وضع تدابير تدرّجية لبناء الثقة التي تستلزم الاعتماد على الشفافية، والتواصل، ومشاركة المعلومات.
يمتد تدخل دول مجلس التعاون الخليجي في شؤون اليمن على مدى سنوات طويلة؛ وذلك للأهمية الجغرافية الاستراتيجية التي تتبوأها اليمن ضمن دول الجزيرة العربية. ولدى كل دولة من دول الخليج تاريخها الخاص مع اليمن ودوافعها الدبلوماسية الخاصة. تحت رعاية ولي العهد سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الذي تولى وزارة دفاع المملكة العربية السعودية من 1963 إلى 2011، بنيت القوة المهيمنة الأوسع في الجزيرة العربية واستطاعت الاحتفاظ بشبكات الرعاية المحسوبية كي تمتد بصورة عابرة للدول. والمعلوم تاريخيا أن ما يربط السياسية الخارجية للمملكة العربية السعودية باليمن ليس المصالح الاقتصادية فحسب، بل، أيضا، الاهتمامات العملية المتعلقة بأمن الحدود. أما مصالح دولة الإمارات العربية المتحدة في اليمن، فإنَّها ترجع إلى عقد السبعينيات من القرن الماضي عندما اتجه مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان نحو تطوير علاقات مع جيران بلده في الجهة الجنوبية. أضفْ إلى ذلك أن للإمارات العربية المتحدة رهاناتٍ جغرافية استراتيجية واسعة في اليمن تنبثق من مصالحها التجارية في خليج عدن والقرن الأفريقي.
خلال العقد الأول من هذا القرن 2000 إلى 2010، وخلال معظم سنوات العقد اللاحق، كانت سلسلة من التطورات بمثابة الاختبار لبعض العلاقات بين اليمن ودول الإقليم. بصورة متدرِّجة أخذت المملكة العربية السعودية تنظر إلى اليمن من خلال منظار مكافحة الإرهاب، لاسيما بعد أن اتحد فرعا القاعدة في السعودية واليمن في إطار تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خلال 2009 وهو العام الذي شهد في مرحلة لاحقة نجاة الأمير محمد بن نايف من محاولة اغتيال دبرها التنظيم نفسه. ويعزى تغيّر ديناميات السياسات الخارجية الخليجية إزاء اليمن خلال العقود القليلة الماضية إلى تفكّك شبكة الرعاية المحسوبية في اليمن التي كان يتولى أمرها الأمير سلطان من جهة، و إلى نشوء منافسة إقليمية حول النفوذ في اليمن من جهة أخرى.
وعلاوة على ذلك، فإنّ الاحتجاجات الشعبية في اليمن خلال العام 2011 قد غيّرت الاستراتيجيات المتعلقة بالسياسات الخارجية. فقد ارتبط خروج الرئيس السابق علي عبدالله صالح من السلطة باتفاقية انتقال سياسية متعددة الجوانب رعتها دول مجلس التعاون الخليجي. سعت الاتفاقية، التي أطلق عليها المبادرة الخليجية، إلى ضمان الاستقرار في اليمن، لكنْ، في نفس الوقت، ترافقت مع السعي إلى ضمان الحيلولة دون وصول المطامح الديمقراطية في اليمن إلى الدول الخليجية المجاورة التي يتمتع قادتها بنظام حكم استبدادي. وكان من المقرر، وفقا لنص الاتفاقية، أن تُتوج عملية الانتقال السياسي في الحكم بانتخابات ديمقراطية، غير أنَّ سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في نهاية العام 2014 قد أجهض العملية. أدت السيطرة على العاصمة إلى تقسيم الدولة ضمن نظام حكم أمر الواقع وهو ما استدعى التدخل السعودي الإماراتي في اليمن يوم 26 مارس 2015م.
دأبت دول الخليج على التصرف إزاء اليمن وفقا لمصالحها الوطنية أكثر من النظر إلى المصالح الإقليمية، وخصوصا بعد تعثر المبادرة الخليجية. لم يبلغ المسؤولون السعوديون نظراءهم الإماراتيين وشركاءهم الآخرين في التحالف عن نيتهم في توجيه الضربات الجوية في اليمن إلا قبل مدة قصيرة من بدء العمليات في مارس 2015م. ولأن الجمهور الأمريكي حاضر في أذهانهم فقد أعلنوا بدء العمليات العسكرية في مؤتمر صحفي من داخل واشنطن. لقد كان للتدخل أهداف متعددة، وكان الهدف المعلن هو إيقاف تقدم الحوثيين وإعادة تمكين الحكومة المعترف بها دوليا. غير أن المملكة العربية السعودية أرادت أن تضمن الحيلولة دون تمكّن خصمها الإقليمي الأكبر، إيران، من أن تزيد من حجم نفوذها في اليمن عن طريق حلفائها الحوثيين. أما الإماراتيون فقد كان دافعهم، بالدرجة الأولى، مرتبطا بالطموح في المكسب الاقتصادي، إنْ هم استطاعوا إحراز نفوذ على ميناء عدن في جنوب اليمن.
بعد الهجمات الجوية الأولية، عمد السعوديون والإماراتيون إلى نشر جنودهم في مناطق متعددة وأقاموا روابط مع الحكومة المعترف بها دوليا المنفية في الرياض، ومع المجلس الانتقالي الجنوبي الداعي إلى استقلال الجنوب، بطريقة غير موحدة. وما الاشتباكات العسكرية التي دارت رحاها في عدن في أغسطس 2019م إلا مظهر من مظاهر غياب التنسيق في عملية صناعة السياسات السعودية-الإماراتية. وقد كان من شأن تلك الاشتباكات أنْ جعلت المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا يدفع الحكومة للخروج من العاصمة المؤقتة عدن إلى المنفى.
لم يفلح اتفاق الرياض، الذي جرت الوساطة فيه بين الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي، في لمِّ شمل الطرفين ليكونا معا. أما التسوية الأخيرة التي شُكِّلت بموجبها ” حكومة وحدة وطنية” في ديسمبر من العام المنصرم، فلم تحدث إلا بعد تجديد السعودية لتدخّلها المباشر. ومع ذلك، فإنّ غياب تنفيذ الجانب الهيكلي من الحكومة، يكشف عن التوترات التي تتخلل الرؤى المدعومة من كل من السعوديين والإماراتيين بخصوص المستقبل السياسي لليمن. وكان من تبعات المأزق الناتج عن هذه الحالة أن تقوَّضت الحملة الموجهة ضد الحوثيين في اليمن وأصبح أمر مفاوضات سياسية نهائية من شأنها أنْ تعقب الصراع بالغ التعقيد.
يكمن التحدي المرتبط بالتحرك قدُما في تحفيز الفاعلين السياسيين حتى يلعبوا دورا بنَاء في السلام المرتقب في اليمن. وحتى تتحقق هذه الغاية فلا بد من أنْ تتغير العلاقة التي تربطهم بالجماعات التي يدعمونها في اليمن بصورة جوهرية. ومن أجل حوار سياسيّ ذي معنى ويُتوخى منه أنْ يكون فعّالا، فإن المجموعات اليمنية المسنودة من دول خارجية تحتاج إلى أن تقطع تلك الروابط، وأنْ تشرع في التركيز على القضايا الداخلية. وهذا الأمر سيتطلب من الدول الخارجية ذات النفوذ في اليمن أن تتخلى عن جعل الأهداف التي تخدمها هي ما يشكل الديناميات المحرِّكة لمستقبل اليمن السياسي والعسكري.
ضمن هذا الأفق سيكون على كل الأطراف ذات المصالح في مستقبل اليمن، بما في ذلك دول الخليج وإيران والحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي و الحوثيون، أنْ تلتزم بقواعد جديدة للمشاركة. وهذا سيتطلب اتفاقا تأسيسيا يُعترف بموجبه أنّ الحاجة تستلزم الدعم الخارجي لإعادة بناء اليمن في مرحلة ما بعد الصراع. وستحتاج المجموعات ذات الصلة إلى أنْ تصل إلى توافقٍ حول نوعية الأشكال المقبولة من الدعم، ومِن ذلك على سبيل المثال: المال اللازم لدعم التنمية، والجهة التي ينبغي أن يُوجّه إليها ذلك الدعم، وشكل ذلك الدعم؛ وذلك حتى لا تُخلق انقسامات إضافية.
لنْ يكون جَمْع القوى الإقليمية كي تلتزم باتفاق من هذا القبيل وأنْ تستمر في ذلك أمرا سهلا. وحتى إن كان باستطاعة تلك الأطراف التوصل إلى توافق أساسي، فإنّ الأسئلة ستظل تحوم حول الكيفية التي يمكن بموجبها ضمان تصرف كل الأطراف بنية حسنة وأن كل الأطراف سترفع قبضاتها عن اليمن في آن واحد وبصورة دائمة. فالمعلوم أن اليمن تُتخذ ساحةً للحرب بالوكالة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ومن هنا، ستكون هاتان البلدان، بصورة خاصة، مترددتين في التراجع. وسيكون من المرجّح، عندئذٍ، أنْ يضطلع المجتمع الدولي بالإشراف على العملية وأنْ يقدم نظاما يتضمن الحوافز التي تضمن المحاسبة بخصوص أي اتفاق. ولعل دولة الكويت، بوصفها وسيطا محايدا، أن تسهم، أيضا، في الإشراف على الالتزام بالتطبيق. ولن يتحقق تقدم ذو معنى في اليمن إلا عندما تتيقن كلّ الأطراف أنّ عملية السلام تقع بصورة مباشرة في أيدي اليمنيين، دون تأثير خارجيّ.
References :
[1]YPC nationwide representative survey, April–July 2019. Data cited in this paper is drawn from this survey unless otherwise indicated.
[2] UN News “Humanitarian crisis in Yemen remains the worst in the world, warns UN” Feb 2019. https://news.un.org/en/story/2019/02/1032811 (Accessed 3 March 2020).
[3] Wadhah Al-Awlaqi and Maged Al-Madhaji, Rethinking Yemen’s economy: Local governance in Yemen amid conflict and instability, July 2018. https://devchampions.org/files/Rethinking_Yemens_Economy_No2_En.pdf (Accessed 8 March 2020); Mansour Rageh, Amal Nasser, and Farea Al-Muslimi, “Yemen without a Functioning Central Bank: The Loss of Basic Economic Stabilization and Accelerating Famine,” Sana’a Center for Strategic Studies, November 2016. http://sanaacenter.org/publications/main-publications/55 (Accessed 23 May 2018).
[4]Data source: OCHA, “Humanitarian needs overview 2019: Yemen”, December 2018. https://yemen.un.org/sites/default/files/2019-08/2019_Yemen_HNO_FINAL.pdf (Accessed 11 March 2020).
[5] Final report of the Panel of Experts on Yemen, addressed to the President of the Security Council, January 2020. https://undocs.org/S/2020/70 (Accessed 11 March 2020).
[6] Mareike Transfeld, “Implementing Stockholm: The Status of Local Security Forces in al-Hodeidah,” YPC Policy Report, Yemen Polling Center, Policy Report, November 2019. http://www.yemenpolling.org/Projects-en/ICSP_EU_HodeidahReport2019November30.pdf (Accessed 16 February 2020).
[7] Mareike Transfeld and Shaima Bin Othman, “The State of the Police in Western Yemen”, YPC research debrief, Yemen Polling Center, Research Debrief, January 2020. https://www.yemenpolling.org/4325/ (Accessed 16 February 2020).
[8] Amnesty International, “Yemen: Fierce new offensive displaces tens of thousands of civilians from Hodeidah” May 2018. https://www.amnesty.org/en/latest/news/2018/05/yemen-fierce-new-offensive-displaces-tens-of-thousands-of-civilians-from-hodeidah/ (Accessed 5 March 2020).
[9] Maged Sultan, Mareike Transfeld and Kamal Muqbil, “Formalizing the Informal State and Non-State Security Providers in Government-Controlled Taiz City,” YPC Policy Report, Yemen Polling Center, July 2019. https://yemenpolling.org/advocacy/upfiles/ICSP_EU_FinalTaizReport2019July19.pdf (Accessed 16 February 2020).
[10] Nadwa al-Dawsari , “Tribal Governance And Stability In Yemen “, The Carnegie papers, Carnegie endowment (April 2012). https://carnegieendowment.org/files/yemen_tribal_governance.pdf (Accessed 5 March 2020).
[11]CIVIC, “We Did Not Know If We Would Die From Bullets Or Hunger” Civilian Harm and Local Protection Measures in Yemen “, Jan 2019, https://civiliansinconflict.org/wp-content/uploads/2020/01/YEMEN_BulletsorHunger_FINAL_PROOF.pdf (Accessed 5 March 2020).
[12] Fatima Saleh and Ahmed al-Sharjabi “Institutional Prerequisites for the STC “Coup” in Aden and Perspectives on the Jeddah Deal” , research debrief, Yemen Polling Center, Oct 2019. https://www.yemenpolling.org/institutional-prerequisites-for-the-stc-coup-in-aden-and-perspectives-on-the-jeddah-deal/ (Accessed 16 February 2020).
[13] Human Rights Watch, “Yemen: Riyadh Agreement Ignores Rights Abuses”, December 2019, https://www.hrw.org/news/2019/12/12/yemen-riyadh-agreement-ignores-rights-abuses Accessed 5 Mar 2020; Human Rights Watch, “Yemen: UAE Backs Abusive Local Forces” June 2017.